الخسران المبين: كيف صاغ الاستعمار والنفوذ الخارجيُ أزمةَ هويةٍ ودولةٍ في العالم العربي؟

الاول نيوز – صلاح ابو هنود
مخرج وكاتب
المقدمة — مشهد مُؤلم
ما جرى خلال قرنٍ من تاريخنا الحديث ليس مجرد سلسلة أحداثٍ سياسية أو حروبٍ متناثرة؛ بل هو مشهدٌ طويل من خسارة متعاقبة: خسرنا كيانًا وطنياً متماسكًا، وخسرنا زمنًا كان يمكن أن يُستثمر في بناء المجتمعات، وخسرنا كذلك مصداقيات قادتنا أمام شعوبٍ تعبت من وعودٍ لا تُترجم إلى واقعٍ ملموس. لفهم هذه الخسارة يجب الانتقال من السردِ الأخباري إلى قراءةِ البنى: الحدود،ُ الدولة،ُ المؤسسات،ُ والأيديولوجيات التي امتدت لتُغيّر مصائر أممٍ بأكملها.
الاستعمار كآلية تشكيل (وليس حدثًا واحدًا)
الخرائط التي رسمها توافقاتٌ مثل سايكس-بيكو وامتداداتها السياسية لم تكن مجرد خطوطٍ على ورق؛ بل كانت أدواتٍ لصناعة كياناتٍ سياسية بُنيت بسرعةٍ وعلى اختلافٍ مع الهويات المحلية. هذه الطوبوغرافيا الجديدة فرضت دولًا ذات هوامش شرعية هشة، ما فتح الباب أمام تنازع شرعيةٍ داخليٍّ دائم؛ فحين تُفصل الدولة عن النسيج الاجتماعي المحلي، تصبح سلطةُ المركز قابلةً للانهيار أمام أي صدمةٍ سياسية أو اقتصادية. هذا ليس ادّعاءً أدبيًا فحسب؛ بل هو نتيجةٌ تناقشها الدراسات التي تربط بين الحدود الاستعمارية وبنية الدولة الحديثة في المنطقة.

الهوية القومية : صناعةٌ خارجية أم استجابة داخلية؟
القومية العربية، كما نعرفها رسمياً في بعض مراحل القرن العشرين، كانت مزيجًا من مشروعٍ حديثٍ محليّ وأهدافٍ دوليةٍ عظيمة النطاق. الغربُ، في سعيه لتثبيت مصالحه، لم يخلق فكرةَ القومية من العدم لكنه استثمر في نقاطِ تماسّ محلية، وأحيانًا فصل بين تياراتٍ سياسية لإضعاف احتمالات وحدةٍ تهدد مصالحه. النتيجة: حركاتٌ قوميةٌ ضعيفة المؤسسات، وغالبًا ما تُترجم إلى الأنظمة السلطوية التي تعيد إنتاج العجز بدلاً من حلّه. الأدبيات التي تراجع فشل المشروع الديمقراطي في الشرق الأوسط تُشير مباشرةً إلى دور السياسات الخارجية والتدخلات في إضعاف فرص البناء الوطني.

صعودُ الفِكر الديني كبديل (ومآلاته)
حين عجزت الأنظمة الوطنية عن تلبية احتياجات الشعوب—اقتصادية، اجتماعية، أو تمثيلية—نبتت فراغاتٌ استغلّها التيار الديني السياسي كإطارٍ بديلٍ للهوية والمقاومة. الحبكة هنا ليست مجرد دينيةَ/سياسية بحتة، بل ظرفٌ مركب: انهيارات اقتصادية، شبان بلا عمل، دول عاجزة عن الحماية والخدمات، وتدخلات إقليمية تُغذي الانقسام. في ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان، شهدنا كيف تحوّل الإيمان أو الفكر الديني إلى أداةٍ للصراع، وأحيانًا إلى نظامٍ موازٍ يُسيطر على الأرض والموارد ويستنزف المشروع الوطني. هذا التحول له أسبابٌ داخلية وخارجية معًا، ويُعدّ أحد عوامل تفتيتِ دولة ما بعد الاستقلال.

دور الجهات الخارجية والاحتكام إلى القوة
ليس كل التدخل خارجيًا سياسياً مباشراً؛ فأنماط التمويل، التسلح، وسياسات الصفقات الإقليمية والدولية تُمكّن فواعل محلية من التمرد على الدولة أو إحكام السيطرة عليها. التدخلات التي استهدفت تحقيق توازنات قوة إقليمية كانت دومًا على حساب الاستقرار الداخلي. وكما تُظهِر تقارير المؤسسات الإقليمية والدولية، فإن تراكم الصراعات في ليبيا وسوريا واليمن هو نتاجُ تشابك عوامل داخلية (اقتصاد، فساد، هشاشة مؤسساتية) مع عواملٍ خارجية (تدخلات، أسلحة، سياسات إقليمية).

حجم الخسارة: إنسانية قبل أن تكون جغرافية
نحن أمام خسارةٍ لها ثلاثة أبعاد متداخلة:
1. البُعد السياسي المؤسسي: تآكل الدولة كمرجعية قادرة على تأمين الحد الأدنى من الخدمات.
2. البُعد الاجتماعي-الاقتصادي: فراغٌ تنمو فيه البطالة، الفقر، والهشاشة—عواملٌ تُطيل أمد الصراعات.
3. البُعد الأخلاقي والإنساني: تراكم العنف يضعف القدرة على التعاطف، ويطبع الذاكرة الجماعية بصورٍ من العنف والخوف.
الخسارة الحقيقية ليست خط ساحلٍ أو نفوذًا جيوسياسيًا فحسب، بل سنواتٍ من الفرص المسروقة—قرن كامل كما قلت—كانت لتُبنى فيها مدارس ومستشفيات واقتصادات قادرة على امتصاص الصدمات.
مخارج-ممكنة: إعادة التفكير لا إعادة إنتاج الماضي
الخروج من هذا المستنقع يتطلب أكثر من شعارات أو تبديلٍ قيادات؛ يتطلب:
إعادة بناء مؤسساتٍ شرعية قادرة على تقديم خدمات وتحقيق عدالة توزيع.
برامج واقعية لإدماج الشباب اقتصادياً وسياسياً، لأنهم بوابةُ الاستقرار أو المحركُ للعنف.
خفض تصعيد التدخلات الخارجية وتحويل المنافسة الدولية إلى آليات تعاون إنساني-تنموي.
مصالحةٍ نقدية مع التاريخ: قراءةٌ جريئة لآثار الاستعمار والأدوار الإقليمية، مع رفض السرديات السهلة التي تلقي كل المسؤولية على فئةٍ واحدة
خاتمة — دعوة لمشهدٍ آخر
الخسارة التي نعيشها ليست قَدَرًا؛ هي تراكم قراراتٍ وأخطاءٍ داخلية وخارجية. يمكنُنا أن نرى في المشهد الكئيب فرصةً نادرة لإعادة تقدير ما نريد أن نُنجز: دولةٌ بشريةٌ، لا دولةٌ تباهٍ بالحدود وحدها؛ مجتمعاتٌ تُقاس نجاحها بقدرتها على حماية مواطنيها وفتح آفاقٍ للحياة الكريمة. التاريخ لا يُصلح ذاته وحده، لكنه يمنحنا دروسًا إن رغبنا أن نتعلم.

عن Alaa

شاهد أيضاً

حين يتحوّل القانون إلى سلاح: قراءة في قرار مجلس الأمن وخطر استخدامه لتبرئة إسرائيل من جريمة الإبادة

الأول نيوز – صلاح ابو هنود مخرج وكاتب لم يعد الجدل محصورًا في بنود قرارٍ …