الجسد الآثم،: الخوارزميات تعبث بالقيم

الأول نيوز – موسى برهومة

 

علق ناشط ثقافي غاضب على تفشي العري على مواقع التواصل الاجتماعي بأنه أضحى مسيطراً على تلك المنصات، إلى حد صارت الحاجة إلى قليل من “الحشمة” مطلباً أساسياً وملحاً.

وثمة من يعد هذه الظاهرة بأنها إحدى التأثيرات الجانبية لطوفان السوشيال ميديا، أو أنه واحدة من تداعيات الهزة الارتدادية التي أحدثها وما يزال الذكاء الاصطناعي الذي صدّع الحقيقة وهدّم أسوارها، والآن يعمل على تمزيق الكرامة الإنسانية، وتحطيم الأخلاق، وإهانة قداسة الجسد، وإهدار أسراره.

ولعل جولة سريعة في منصتيْ “تيك توك” و”إنستغرام”، على سبيل المثال، تظهر مقدار التعري البذيء الذي يستهدف إبراز مفاتن الجسد الأنثوي (حصرياً) بطريقة مهينة، من دون أي اكتراث بكون العارضة قاصرة، أو ترتدي (هي لا ترتدي!!) ملابس ذات رموز دينية، أو تتفوه بألفاظ مستقاة من القاموس الشوارعي المبتذل إلى أقصى حد.

 

جناية نظام الخوارزميات

وفي غضون ذلك، يمضي نظام الخوارزميات بلا هوادة في مكافأة هذا المحتوى الهابط بزيادة أعداد المشاهدة والتوسع في الانتشار، ما يعني حصداً مليونياً للمشاهدات، وبالتالي مكافآت مالية مجزية تغني عن العمل بوظيفة رفيعة المستوى تحتاج إلى خبرة وشهادات ومكابدات. فقط أبرزي ما ظل خافياً من جسدك لثوانٍ معدودات واكسبي أموالاً طائلة.

وما كان ذات يوم محصوراً في الثقافة الغربية، لم يعد كذلك الآن، حيث تتنافس فتيات وسيدات عربيات على التباري من أجل تحقيق المكاسب، في سباق لا نهاية لتفاهاته وانحطاطه، ما يعني أنّ منظومة أخلاقية صنعتها الأديان والفلسفات وجهود المفكرين ورواد الحرية والتنوير تتهاوى بسرعة قياسية، بعد أن ترافق ذلك مع انقلاب سلّم الأولويات القيمية التي انسحقت تحت عجلات الكسب السريع والبريق اللماع للشهرة والحضور، ما يستدعي مقولة الأديب الأوروغواياني إدواردو غاليانو: “نحن نعيش في عصر التفاهة، حيث حفل الزفاف أهم من الحب، ومراسم الدفن أهم من الميت، واللباس أهم من الجسد، والمعبد أهم من الله”.

 

نظام التفاهة

وفي كتابه المهم “نظام التفاهة” يقول الفيلسوف الكندي آلان دونو “إنّ التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير زمن الحق والقيم، ذلك أنّ التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم، فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقاً وأخلاقاً وقيماً. إنه زمن الصعاليك الهابط”.

ويضيف دونو، في كتابه الذي ترجمته الأكاديمية الكويتية د. مشاعل الهاجري، وصدر عن دار سؤال في بيروت: “إنّ مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين، حيث صار بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات تلفزيونية عامة، هي أغلبها منصات هلامية وغير منتِجة، لا تخرج لنا بأي منتّج قيمي صالح لتحدي الزمان”.

الشهرة والسطحية تغلبتا على شبكة القيم والمعرفة، وصار المعيار هو الظهور لا الجوهر، وعدد المتابعين لا مقدار الفكر أو الإبداع. وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في ذلك بتكريس ثقافة “الترند” بدل ثقافة المضمون، ما جعل كثيرين يسعون للانتشار بأي وسيلة حتى لو كانت على حساب الذوق، أو الأخلاق، أو القيم، أو الأديان، أو المشاعر.

الغرائز (في مستواها الشهواني البهيمي) تتحكم بنظام المشاهدة والمتابعة بدافع الفضول لا الموافقة، وهذا ما تلتقطه الخوارزميات التي ترفع الفضول إلى درجة تشبه الإدمان، ما قد يكون تفسيراً لتفشي هذه الفيديوهات والصور والتعليقات، وهيمنتها على ما عداها من منشورات معرفية، أو ذات أهداف ترفيهية نظيفة.

 

الأرقام لا الأفكار

الخوارزميات تعمل بنظام الأرقام لا الأفكار. ولأنّ الأخيرة تحتاج إلى إعمال العقل وتفعيل قوانين التأمل والإصغاء، فإنها لا تستقطب مشاهدات وتفاعلات مثلما يحدث عند مشاهدة مَن تدعي أنها مذيعة تظهر بثياب البحر المثيرة، وتسأل أشخاصاً مسنين عن تفاصيل علاقاتهم الحميمية، وشؤونهم التي يتعين أن تكون حبيسة صناديقهم السوداء، لا مادة للتسلية والمسخرة.

ويستبطن ما سبق إحساس عميق، لم يتحول بعد إلى موقف قاطع، بأنّ هذه التفاهات هي شغل الناس الشاغل، ومؤشر توقهم إلى العيش، بعيداً عن تعقيدات المفكرين، وتنهدات الأدباء، وسفسطة الفلاسفة، وهذا استنتاج أضحى شائعاً على ألسنة عديدين جُلهم من الشباب الذين زُيّن إليهم أنّ العمل السريع الذي لا يحتاج إلى جهد وعمق هو الذي “يُطعم خبزاً”، مستشهدين في ذلك بأمثلة صاعدة بقوة صاروخية من دون عناء. فقط كل ما في الأمر تقديم تنازلات تتلوها أخرى من أجل تلبية مذاقات الجمهور، ونيل لايكاته وتعليقاته ومشاهداته ومتابعاته.

لقد قالها دونو “كلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال والهبوط، ازداد جماهيرية وشهرة”. بيْد أنّ الفيلسوف الكندي يشير إلى نقطة مثيرة للتفكير، حين يصف هذه الظواهر بـ”التخريب”. فـ “قد يزعجنا الذوق السيئ، الوقاحة، الاستفزاز، أو الإهانة، ولكن في الحقيقة يجب التنبه إلى أنه ما يتم مهاجمته هنا فعلاً هو ذكاؤنا: يصعب تصديق أنّ الفنان يستطيع أن يصدمنا بمثل هذه الحيل القديمة. (…) هذه التخريبات النمطية المدارة بأجهزة التحكم من بعد لها أيضاً أثر أكثر عمقاً وإقلاقاً. إننا نشعر بالتقزز من دون أن نعرف سبباً واضحاً لذلك. (…) ربما تكون الإجابة موجودة في القرب الخطر للتخريب من الانحراف”. “التخريب” هنا يُبرز التعبيرات الفظة للمتعة المنحرفة المستنكرة، بتعبير دونو.

 

الجسد أكبر الخاسرين

وفي عملية التخريب التي تطبّعها الخوارزميات، يبدو الجسد أكبر الخاسرين، فهو لم يعد فقط سلعة للاستهلاك، ولا أداة لإثارة الشهوات السريعة العابرة، بل خسر معناه الإنساني، وفقد كيانيته، وحضوره التاريخي كقنطرة تؤاخي بين الروح والعقل. العري الهذياني للجسد، كما يتجلى في منصات السوشيال ميديا، نزع من الجسد أعز ما يملك، أي جدلية الخفاء والتجلي، والقدرة على الإبهار من خلال ألمعيته في الإغواء، وقدح أسلحة التعبير لتمخر المجالات الحيوية للخيال.

ما عاد الجسد محتشداً بقواه الخفية الغامضة الساحرة والمعذِبة. بل أضحى مستباحاً، بلا خَفَر، ولا نفوذ طاغٍ، وإنما إنشداه مؤقت يلغي لاحقُه سابقَه، في سلسلة لا نهائية من تفتيت قداسة الجسد وكرامته وإفشاء إعجازه، وهدر فتنته ومعناه.

عن Alaa

شاهد أيضاً

الخسران المبين: كيف صاغ الاستعمار والنفوذ الخارجيُ أزمةَ هويةٍ ودولةٍ في العالم العربي؟

الاول نيوز – صلاح ابو هنود مخرج وكاتب المقدمة — مشهد مُؤلم ما جرى خلال …