الفحيص تستغيث.. فمن يعيد لها ما سرقته السنوات والصفقات؟!..

محمود الدباس – الأول نيوز –

كان المشهد دائماً يبدأ بهدوءٍ.. لا يشبه إلا الفحيص نفسها.. تلك المدينة التي اعتادت أن ينهض صباحها من رائحة بنٍّ قديم.. وسماع أجراس كنائسها القديمة.. وأن تتدلّى على تلالها كرومٌ لا تُخطئ مواسمها.. وأن تتوزع في سفوحها ينابيع.. كانت ذات يومٍ تحفظها الطبيعة كما تحفظ الأم رضيعها.. مدينة لم تكن تعتقد أن غبار الإسمنت سيغدو ضيفاً ثقيلاً.. ينام على صدور أبنائها لسنوات طويلة دون أن يرحل..

ومع رحيل المصنع.. لم يرحل أثره.. فقد ترك خلفه أرضاً أنهكها الاستنزاف.. وملامح طبيعةٍ تغيّرت.. وذاكرةً موجوعة تتساءل.. كيف تحوّلت المدينة من وادعةٍ تحميها تلالها.. إلى مساحة تتنافس فوقها الصفقات.. وتتصارع عليها التقديرات؟!.. وكيف أصبح قلب الفحيص اليوم.. معروضاً لمصيرٍ لا يشبه المدينة.. ولا تاريخها؟!..

ولم يكن أهالي الفحيص بحاجة لمن يشرح لهم المخاطر القادمة.. فأيّ عاقل يتخيل ماذا سيحدث.. إن تحوّلت الأراضي الواقعة في وسط المدينة إلى عمارات شاهقة.. ومستعمرات سكنية؟!.. ماذا سيحدث حين يتدفق آلاف السكان الجدد.. إلى طرق بالكاد تتّسع لأهلها؟!.. كيف ستحتمل البنية التحتية المتعبة أصلاً.. ضغطاً عمرانياً بهذا الحجم؟!.. وكيف ستبقى الفحيص هادئة.. وهي التي ستُطمر تحت زحامٍ لا يشبه هويتها.. ولا نمط حياتها.. ولا حتى طبيعتها الاجتماعية؟!..

لكن الأخطر من ذلك لم يكن في مستقبل الأرض.. بل في قصتها القديمة.. قبل أن يصل الأمر إلى الإعسار والبيع.. فحين نعود إلى تقرير اللجنة الملكية لتقييم التخاصية.. نكتشف أن البداية نفسها لم تكن بريئة تماماً.. إذ أشار التقرير إلى وجود غموض واضح في آلية التقدير.. وفي فهم القيمة الحقيقية لأصول المصنع.. حتى إن رئيس اللجنة الدكتور عمر الرزاز قالها بوضوح لا يحتاج إلى تأويل “سند التسجيل الذي تملكه لافارج لا يعني أنها حرة في استعمال الأرض كما تشاء”.. وهذه الجملة وحدها تكفي لتشرح.. لماذا تبدو كل خطوة على أرض الفحيص اليوم محمّلة بظلال من الأسئلة.. أسئلة بدأت منذ يوم البيع الأول.. وما زالت حتى الآن بلا إجابات..

ومع مرور السنوات.. جاءت تقارير مثل Arab Watch لتزيد هذا الشعور المتنامي.. بأن الملف كلّه لم يُكشف كما يجب.. إذ تحدثت بوضوح عن نقص شديد في الشفافية فيما يتعلق بالأثر البيئي.. وبكيفية التعامل مع الأراضي المتضررة.. وبالكلفة الحقيقية.. التي دفعتها المدينة بيئياً وصحياً واجتماعياً.. وكأن ملف المصنع كان صندوقاً محكماً.. لا يُسمح للفحيص بفتحه.. إلا بعد أن تكون الأرض قد تغيّرت.. والذاكرة قد تشوهت.. والحقائق قد ذابت في غبار السنين..

ولذلك فإن ما جرى ليس مجرد عملية بيع.. بل عملية إعادة رسم لهوية مدينة كاملة.. مدينة تحمل في قلبها تاريخاً أردنياً عريقاً.. وناساً لم يُعرفوا إلا بالوطنية والكرم والوفاء.. أناسٌ لم يرفعوا صوتهم.. إلا حين شعروا أن ما تبقى لهم من أرض يذوب تحت قدميهم.. وأن ما ضحّت به كرومهم وينابيعهم.. لم يعد يُقابل بأي اعتراف.. أو جبر ضرر.. أو مسؤولية مجتمعية تحترم سنوات الألم..

وفي الوقت الذي جرى فيه إعادة تأهيل مساحات واسعة من أراضي الرصيفة المتضررة من تعدين الفوسفات.. وتحويلها إلى حدائق ومتنفسات لأهل المدينة.. تقف الفحيص اليوم تتساءل.. هل نحن أقل شأناً؟!.. هل مدينتنا لا تستحق أن تُعاد إليها الحياة كما أُعيدت لغيرها؟!.. هل العدل الانتقائي قدر المدن الصغيرة؟!..

فلو أرادت لافارج أن تغادر بصفحة مشرقة.. لأعادت تأهيل الأراضي التي أنهكها الغبار طوال عقود.. ولو أرادت الحكومة أن تكتب موقفاً وطنياً مشرفاً.. لكانت أول من وقف مع أهل المدينة.. وأول من طالب بإنصافهم.. وأول من قال للشركة.. إن الأرض ليست رقماً في دفتر الإعسار.. ولا مجرد أصل قابل للبيع.. بل قطعة من روح مدينة.. لا يجوز المتاجرة بتاريخها..

ولهذا نقولها اليوم لكل مسؤول في هذا الوطن.. إن الفحيص ليست قضية عقار.. بل قضية وطن.. ليست خلافاً على حدود أراض.. بل خلافاً على حق الناس في مدينتهم.. على حق الذاكرة في أن تبقى حية.. على حق الأرض في أن لا تتحول إلى غنيمة إفلاس..

الفحيص اليوم لا تطلب المستحيل.. تطلب فقط أن يُرفع عنها الظلم.. وأن تُعاد إلى أرضها كرامتها.. وأن يتذكّر المسؤولون.. أن المدن لا تُباع مثل البضائع.. ولا تُقايض كأنها قطع غيار.. وأن التاريخ لا يرحم من يقف متفرجاً.. بينما تُغتال مدينة مرتين.. مرة بالغبار.. ومرة بالطمع..

إذا كانت الرصيفة قد نالت حقها بعد عقود من الإهمال.. فالفحيص تستحق أيضاً.. وتستحق الآن.. قبل أن تستيقظ المدينة ذات صباح.. فلا تجد من هويتها إلا صوراً قديمة.. وذكريات لا تكفي لتبرير ما ضاع..

قفوا مع الفحيص.. قبل أن يكتب التاريخ أن الأرض تكلمت.. والمسؤولون صمتوا..

عن Alaa

شاهد أيضاً

الخسران المبين: كيف صاغ الاستعمار والنفوذ الخارجيُ أزمةَ هويةٍ ودولةٍ في العالم العربي؟

الاول نيوز – صلاح ابو هنود مخرج وكاتب المقدمة — مشهد مُؤلم ما جرى خلال …