وصفي التل … سيرة رجل الدولة والمشروع الذي لم يكتمل ،،،

محمد قاسم عابورة ­– الأول نيوز –

 

بين طيات الأرشيف الشخصي لأكرم زعيتر، تنبض يومياتٌ تكشف عن واحدة من أكثر الشخصيات الأردنية إثارة للجدل والدرس ، إنه وصفي التل (1919-1971) ، فمن خلال هذه اليوميات ، لا يظهر وصفي التل مجرد سياسي تقليدي ، بل يبرز كظاهرة فكرية وسياسية مركبة ، يصعب حصرها في إطار ضيق . إنه رجل الدولة صاحب الرؤية الاستراتيجية العميقة ، والمفكر ذو المشروع التحرري والتنموي ، والسياسي الواقعي الذي أدرك بدقة متناهية حدود وإمكانيات وطنه في لحظة تاريخية بالغة التعقيد.

عندما تسلم وصفي التل رئاسة الوزراء لأول مرة عام 1962، لم يكن مجرد وجه جديد في المشهد السياسي ، بل كان ممثلاً لتيار سياسي مختلف ، جاء من خارج نادي الحكم التقليدي شبه الإقطاعي ، لقد تشكلت خبرته من خليط فريد من التجارب : فمن مقاومته قتاله ضد العصابات الصهيونية في فلسطين عام 1948، مروراً بتجربته كعسكري محترف في الجيش البريطاني حيث تتلمذ على نظرية “التعرض غير المباشر” للاستراتيجي البريطاني ليدل هارت، الى انتمائه لحركة القوميين العرب  ، هذه الخبرات المتعددة والمتنوعة هي التي نسجت رؤيته السياسية والاستراتيجية المتميزة .

وتكشف يوميات زعيتر عن جانب خفي من فكر التل ، يتمثل في مشروع تحرري طموح لفلسطين ، ففي قصة لها دلالاتها ، كلف التل زعيتر بالمشاركة في إعداد خطة شاملة لتحرير فلسطين، قائلاً له : “وحين أدعوك للاشتراك في هذا المخطط ، أرجو ان لا تكون من الذين يحسبون ألف حساب لأي خطوة إيجابية يخطونها ثم يهربون ، لا عن قناعة ، ولكن خشية أقاويل مغرضة”. ومنح التل زعيتر غرفة في رئاسة الوزراء، حيث عمل لمدة شهرين على إعداد “النواحي المبدئية والسياسية والثقافية ، والقواعد العامة، والمفاهيم العربية.. مسودة الميثاق العام للمخطط”.

لقد صممت هذه الخطة للإجابة على سؤالين محوريين: “أولهما، ماذا يصنع الأردن إذا استقل هو بالمعركة ، وهذه إمكاناته ، وهذا قدره ؟ وثانيهما، ماذا يكون إذا غدت المعركة عربية عامة؟”. لكن هذه الخطة الطموحة ، مثل غيرها من المشاريع الكبرى، لم تر النور بسبب الخلافات العربية وعدم الثقة بين الأنظمة، إضافة إلى التحديات الدولية والإقليمية التي كانت تواجه المنطقة آنذاك .

لقد تميزت الرؤية السياسية لوصفي التل بالواقعية والعمق الاستراتيجي ، حيث انطلق من تقدير استراتيجي أساسي يرى في إسرائيل “العدو المركزي للعرب”. هذه النظرية تختلف جوهرياً عن النظرية القائلة بأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية عند العرب ، ففي رؤية التل، تخضع القضية الفلسطينية والشأن الفلسطيني كله لاعتبارات الصراع غير القابل للتسوية مع الكيان الصهيوني، بينما في الثانية، ينفتح باب الأوهام بإمكان تسوية ذلك الصراع ، من هنا، رفض التل ما أسماه “أوهام الحل السلمي”.

كشفت يوميات زعيتر أيضاً عن بعد استراتيجي مهم في تفكير التل، يتمثل في رفضه للانجرار إلى حرب غير محسوبة ، ففي عام 1966، رفض التل الانجرار إلى الفخ الإسرائيلي إثر عدوان السموع الذي كان هدفه الجوهري جر الأردن إلى حرب تمكن إسرائيل من احتلال الضفة الغربية ، كما وقف ضد مشاركة الأردن في حرب 1967، لأنه كان متيقناً بالحسابات الاستراتيجية أن مآل تلك الحرب هو هزيمة حتمية ، ستقود العرب إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني وفتح أبواب أوهام الحل السلمي .

من خلال قراءة يوميات أكرم زعيتر، تتجلى ملامح المشروع السياسي والإصلاحي الذي قاده وصفي التل، الذي انطلق من خلفية غير تقليدية خارج النخبة الحكمية التقليدية، ليُشكل منعطفاً تاريخياً في مسيرة الأردن الحديث. فقد باشر منذ اليوم الأول لتولي حكومته الأولى عام 1962 أوسع عملية تطهير إداري شهدتها الدولة، مؤسساً بذلك لحكم قائم على الكفاءة ، ولم يقتصر مشروعه على الإصلاح الإداري، بل امتد ليشمل برنامجاً تنموياً طموحاً تمثل في بناء قطاع عام اقتصادي فاعل، وتطوير البنى التحتية، وتأسيس أول جامعة حكومية ، وتحديث الجيش، وإطلاق التلفزيون الأردني ومحطة الأقمار الصناعية التي وصلت البلاد بالعالم، معتمداً في ذلك على كفاءات من خلفيات فلاحية وعشائرية.

أما على الصعيد القومي ، فقد شكلت مقاومة “العدو الصهيوني” المحور الجوهري في فكر التل وسياسته ، إذ آمن بأن الصراع مع إسرائيل وجودي لا يحتمل التسوية، وأن المقاومة الشعبية هي السلاح الأمثل لمواجهتها، ما جعله في نظر رئيس وزرائها إسحق شامير “أخطر” شخصية عربية. وتماشياً مع رؤيته الشاملة ، أقدم على إلغاء السجلات الأمنية للعديد من السياسيين والحزبيين، سامحاً بعودتهم وتقلد مناصب قيادية ، في خطوة جريئة أكملت حلقة مصالحة وطنية شاملة .

لقد أضاءت يوميات أكرم زعيتر عن صورة منصفة ومكتملة الأبعاد لوصفي التل ، كشخصية سياسية وفكرية معقدة يصعب اختزالها في بعد واحد ، فمن خلال هذه اليوميات، يظهر التل كرجل دولة ذي رؤية استراتيجية عميقة ، ومفكر ذي مشروع تحرري وتنموي ، وسياسي واقعي يدرك حدود وإمكانيات وطنه .

إنه رجل عمران من الطراز الأول ، وحضاري النظرة إلى شؤون الحكم ، تقدّمي وصاحب مشروع وحدوي تحرري . لقد مثّل وصفي التل نموذجاً لرجل الدولة الذي حاول أن يبلور مشروعاً وطنياً مستقلاً في زمن كانت فيه المنطقة تعيش تحولات كبرى وتواجه تحديات وجودية ، ورغم أن العديد من مشاريعه لم تر النور، فإن إرثه الفكري والسياسي يظل مادة خصبة للدراسة والتفكير، ليس فقط في الماضي، بل أيضاً في الحاضر والمستقبل .

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

الجسد الآثم،: الخوارزميات تعبث بالقيم

الأول نيوز – موسى برهومة   علق ناشط ثقافي غاضب على تفشي العري على مواقع …