ما بعد الخرسانة والفولاذ … لماذا الحوكمة الرقمية هي البنية التحتية الأكثر أهمية لمدينة عمرة

الأول نيوز – شاكر خليف

عندما نتخيل مدناً جديدة مثل مشروع عمرة الطموح، ستقفز إلى أذهاننا صور المباني الشاهقة، والبنية التحتية المتطورة، والتقنيات المستقبلية ، إلا أن التاريخ الحديث للمدن الذكية حول العالم علمنا درساً قاسياً بأن الفشل لا يكمن في نقص التكنولوجيا، بل في غياب إطار حوكمة قوي وشفاف ، فبدون محرك إداري فعال، تتحول ألمع الرؤى إلى “مدن أشباح” باهظة التكاليف، وتصبح الأراضي مرتعاً للمضاربة بدلاً من التنمية.
لذلك فإن نجاح مدينة عمرة لن يعتمد على عدد أجهزة الاستشعار التي سنزرعها في شوارعها، بل على مدى قدرتها على بناء “نظام تشغيل” حضري يضمن الكفاءة، والعدالة، والاستدامة .هذا النظام هو الحوكمة الرقمية، وهي ليست مجرد مشروع تقني، بل إصلاح سياسي واقتصادي ومؤسساتي وهو الأهم على الإطلاق.

المشكلة: الاقتصاد السياسي للأرض والفجوة المؤسسية

تعاني مدننا الحالية من مشكلتين هيكليتين: اقتصاد ريعي يشجع على المضاربة العقارية واكتناز الأراضي، ومؤسسات تقليدية تعمل في صوامع منعزلة وتفتقر للشفافية. إذا تم نقل هذه الأمراض إلى مشروع عمرة، فإننا سنحكم عليه بالفشل منذ البداية. إن مجرد الحديث عن “منع المضاربة” دون أدوات فعالة هو أمنيات لا قيمة لها ، فالمضاربة ليست مجرد “جشع” بل هي نتيجة منطقية لبيئة اقتصادية تكافئ من يحتفظ بالأرض دون تطويرها.
من هنا، يجب أن تكون الحوكمة الرقمية في عمرة مصممة لمعالجة هذه التحديات الجذرية ، لذلك فإنني أقترح إطاراً من ثلاثة محاور أساسية، مستوحى من أفضل التجارب العالمية، ليؤسس لنظام إداري غير مسبوق في المنطقة.
* المحور الأول: ميثاق عمرة الرقمي (الدستور الإداري)
* المحور الثاني: محرك التشغيل البيني (الجهاز العصبي المركزي)
* المحور الثالث: أدوات سياسة الأراضي الذكية (الأذرع الاقتصادية)

يجب على عمرة أن تتبنى نظام تشغيل حضري متكامل يرتكز على الحوكمة الرقمية وهذا يبدأ بوضع “ميثاق عمرة الرقمي” (Amra Digital Charter)، وهو دستور إداري ملزم يرتكز على الشفافية وصنع القرار القائم على البيانات، مما يحمي المشروع من تقلبات الحكومات كما حدث في برشلونة . هذا الميثاق هو الروح التي تحكم المدينة، أما جهازها العصبي المركزي فهو محرك التشغيل البيني (Interoperability Engine)، على غرار منصة “X-Road” الإستونية الناجحة. هذه المنصة تربط جميع قواعد البيانات الحكومية والخاصة، مما يتيح تطبيق مبدأ “المرة الواحدة فقط” وتقديم خدمات حكومية استباقية للمواطنين والشركات، ويقضي على البيروقراطية والفساد من خلال التكامل السلس بين الأنظمة المختلفة.
ويكتمل هذا النظام بأذرعه الاقتصادية المتمثلة في أدوات سياسة الأراضي الذكية. فبدلاً من الأوامر الإدارية غير الفعالة، يتم استخدام أدوات مالية مثبتة عالمياً لمحاربة المضاربة بشكل مباشر ، وعلى رأس هذه الأدوات تأتي ضريبة القيمة على الأرض (LVT)، التي تجعل الاحتفاظ بأرض فارغة مكلفاً للغاية، وتجبر المالك إما على تطويرها أو بيعها، كما هو مطبق بنجاح في إستونيا وسنغافورة . أما لضمان شفافية مطلقة في الملكية ومنع التلاعب، فيتم تسجيل جميع معاملات الأراضي على سجل عقاري رقمي قائم على تقنية البلوك تشين، كما فعلت جمهورية جورجيا لتأمين سجلاتها العقارية . عند دمج هذه الأدوات، يصبح لدينا نظام حديدي:
* الميثاق يضع القواعد
* والمحرك يربط الأنظمة،
* والأدوات المالية توجه السوق نحو التنمية الحقيقية بدلاً من المضاربة.

دعوة لبناء الأساس قبل البنيان

إن بناء مدينة عمرة فرصة تاريخية لا لتشييد مدينة جديدة فحسب، بل لتأسيس نموذج جديد في الإدارة والحكم الرشيد ،وإن الاستثمار في الحوكمة الرقمية ليس ترفاً بل هو الشرط الأساسي لنجاح المشروع برمته ،فهو الدرع الذي سيحمي المدينة من أمراض الماضي، والمحرك الذي سيطلق إمكاناتها المستقبلية.
وهذه دعوة بصوت عالي لأصحاب القرار بضرورة إعطاء الأولوية القصوى لبناء هذا “النظام التشغيلي” قبل الانغماس في تفاصيل البناء المادي. فلنبنِ الأساس الرقمي الصلب أولاً، وبعدها، سيكون كل شيء آخر ممكناً.

عن Alaa

شاهد أيضاً

البابا لاون والشرق الأوسط: رسالة سلام وحوار

الأول نيوز – د.مارسيل جوينات يُعَدّ حضور البابا ليون إلى تركيا ولبنان حدثًا دينيًا وسياسيًا …