هل نحن حقا نمتلك “معلمين جددا”؟!

الأول نيوز – شيرين قسوس

يمثل تأهيل المعلمين للتدريس في بيئات تعليمية بعيدة عن القمع تحوّلًا عميقًا في الفلسفة التربوية قبل أن يكون مجرد تطور في المهارات المهنية. فالتعليم، كما رأى أفلاطون، ليس عملية حشو للعقول بالمعرفة بل “إيقاظ لما هو كامن في النفس”، وهي فكرة تضع المعلم في موضع المرشد الذي يساعد المتعلم على اكتشاف ذاته وقدراته، لا السلطة التي تُخضعه بالقوة. في واقعنا المعاصر، حيث لا تزال بعض الممارسات التعليمية قائمة على الخوف والانضباط الصارم، تصبح هذه الرؤية الفلسفية أكثر إلحاحًا، إذ تكشف التناقض بين جوهر التعليم بوصفه تحريرًا للعقل، وممارسته أحيانًا كأداة للضبط والطاعة.

إن الابتعاد عن القمع في التعليم يفترض فهمًا إنسانيًا للسلطة، وهو ما أشار إليه جون ديوي حين ربط بين التربية والديمقراطية، مؤكدًا أن الصف الدراسي هو صورة مصغّرة للمجتمع. فالمعلم الذي يمارس سلطته بالفرض والإكراه يهيئ طلابه لتقبل القمع خارج المدرسة، بينما المعلم الذي يدير صفه بالحوار والمشاركة يزرع فيهم قيم المسؤولية والتفكير النقدي. وفي واقعنا العربي، حيث تعيش الأجيال تحت ضغوط اجتماعية واقتصادية وفكرية متعددة، تزداد الحاجة إلى معلمين قادرين على تحويل الصف إلى مساحة آمنة للتعبير، لا امتدادًا لمنظومات الكبت المحيطة بالطالب.

ويبرز هنا البعد النفسي للتأهيل، الذي يلتقي مع رؤية جان جاك روسو القائل إن الطفل يولد خيّرًا، وإن المجتمع هو من يفسده عبر القهر وسوء التربية. حين يُدرَّب المعلم على فهم السلوك الإنساني بوصفه نتيجة لتفاعل معقد بين الفرد وبيئته، يصبح أكثر ميلًا إلى الإصلاح بدل العقاب، وإلى الاحتواء بدل الإقصاء. هذا الوعي الفلسفي يجد صداه اليوم في الدعوات إلى التعليم الداعم نفسيًا، الذي لا يتجاهل الألم والخوف والقلق الذي يحمله الطالب إلى الصف، خاصة في سياقات مضطربة سياسيًا أو اجتماعيًا.

كما أن الفيلسوف باولو فريري قدّم نقدًا جذريًا لما سماه “التعليم البنكي”، حيث يُعامل الطالب كوعاء فارغ تُودَع فيه المعلومات. هذا النموذج، الذي لا يزال حاضرًا في الكثير من مدارسنا، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقمع، لأنه يُلغي صوت المتعلم ويكرّس التبعية. تأهيل المعلمين بعيدًا عن هذا النموذج يعني تدريبهم على ممارسات تعليمية تقوم على الحوار وطرح الأسئلة وربط المعرفة بواقع الطلاب، بحيث يصبح الصف مساحة للوعي لا مجرد مكان للتلقين. وفي واقعنا، يمكن لهذا التحول أن يسهم في تخريج أجيال أكثر قدرة على فهم مشكلاتها والتفكير في حلولها بدل الاكتفاء بالامتثال.

ولا يمكن إغفال البعد الأخلاقي الذي أشار إليه ابن خلدون حين حذّر من الشدة في التعليم، مؤكدًا أنها تورث المتعلم الكسل والكذب والنفاق. هذا القول، رغم قِدمه، يعكس بدقة ما نشهده اليوم من آثار سلبية لأساليب القمع التربوي، حيث يفقد الطالب الدافعية للتعلم، ويتحول اهتمامه إلى تجنب العقاب لا السعي للمعرفة. إن استحضار هذه الحكمة في برامج تأهيل المعلمين يرسّخ قناعة بأن اللين والحكمة ليسا ضعفًا، بل أساسًا لتربية متوازنة ومنتجة.

في ضوء هذه الرؤى الفلسفية، يصبح تأهيل المعلمين مشروعًا ثقافيًا ومجتمعيًا بقدر ما هو مهني. فهو يتطلب بناء وعي نقدي لدى المعلم بذاته وبسياقه، وتدريبه على المزاوجة بين الحزم الإنساني والحرية المسؤولة، وبين المعرفة والرحمة. وعندما يتكامل هذا التأهيل مع سياسات تعليمية تدعم الكرامة الإنسانية داخل المدرسة، يمكن للتعليم أن يؤدي دوره الأسمى كما وصفه كانط: مساعدة الإنسان على أن يصبح إنسانًا كاملًا، قادرًا على استخدام عقله بحرية ومسؤولية في عالم معقّد ومتغير.

فهل فعلا دورات “المعلمون الجدد” تؤهل المعلمين لدينا ؟!

عن Alaa

شاهد أيضاً

من هو الأردني؟ بحث في المعنى لا في الأصل

‎الأول نيوز – صلاح ابو هنود مخرج وكاتب  في هذا الزمن الذي تتشابه فيه الوجوه …