الخوري أنطوان الدويهيّ –
الأول نيوز – أتاني رجل منذ أسبوع، وقال لي: “أنت تكتب في المجلَّة الرقميَّة “الأوَّل نيوز”، وأنا أقرأ لك كلَّ ما تكتبه. يعجبني أسلوبك ومعه أسرح في الخيال. عندي لك قصَّة واقعيَّة هي أغرب من الخيال. حاولت أن أكتبها بأسلوبي فلم أوفَّق. لذا أتيت إليك لأخبرك إيَّاها وتكتبها بأسلوبك الشيِّق.
“في شبابي تعرَّضتُ لحادث سيَّارة أقعدني فترة تفوق السنتين. أُجريت لي خلالها ثلاث عمليَّات جراحيَّة حتَّى استطعتُ المشي من جديد. لم أتابع دراستي لعدم مقدرة أهلي على ذلك بعدما تكبَّدوا المبالغ الطائلة لعلاجي. فنزلتُ إلى الشارع أستعطي علَّني أحصِّل بعض المال لأتابع دراستي،فكنتُ ألقى المهانة واشمئزاز الآخرين منّي ومن استعطائي. وما كنتُ أجنيه لم يكن يكفي لسدِّ رمق جوعي.
“مررتُ يومًا قرب بيت امرأة عجوز فرأيتها تسقي حديقتها. كان سور الحديقة متداعيًا ويحتاج إلى إصلاح. فسألتها إن كانت ترغب في إصلاح السور فأجابتني: أودُّ ذلك لكنَّني لا أملك المال الكثير. فاقترحتُ عليها أن تعطيني ما تشاء لئلاَّ يصبح بيتها عرضة للسرقة، فوافقت. دلَّتني إلى مكان العدَّة؛ أحضرتها وأنهيتُ العمل بشكل متقن، لأنَّني كنتُ تعلَّمتُ النجارة من والدي منذ صغري. عند دخولي غرفة العدَّة وجدتُ درَّاجة هوائيَّة لم تُستعمل بعد ولكنَّ الغبار يعلوها، فقلتُ في سرّي: سوف أترك باب الحديقة مغلقًا لا مقفلاً، وأعود ليلاً لسرقتها دون أن يشعر بي أحد، لطالما وددتُ الحصول على درَّاجة مثلها. فهذه العجوز بالطبع لن تستعملها ولن تندم إن سُرقت من منزلها.
“وعدتُ إلى العجوز التي هيَّأت لي فنجانًا من القهوة، فقالت لي: أرأيتَ الدراجة في غرفة العدَّة؟ أحضرها ابني منذ عشر سنوات، ولكنَّه تعرَّض لنوبة قلبيَّة ومات قبل أن يستعملها. يمكنك أن تأخذها فهي لك.
“تلعثمتُ ولم أحرْ ماذا أفعل، فقلتُ لها: لا، لا، شكرًا. تعرَّضتُ لحادث أقعدني سنتين في البيت، فلا أحسن ركوب الدرَّاجات… أتعلمين رأيتُ أنَّ الباب الخارجيّ يتداعى هو الآخر ويحتاج إلى تصليح. سوف آتي غدًا لإصلاحه. فأجابتني: لكنّني لا أملك مالاً في الوقت الحاضر، فأنا أنتظر إعانة الدولة آخر الشهر الذي يكاد يكفي لإطعامي. فقلتُ لها: لا أريد مالاً. يكفي أن تقدِّمي لي فنجانًا من هذه القهوة اللذيذة.
“تردَّدتُ إليها فترة أسبوع كامل وأنا أصلح لها ما تداعى في بيتها. وعدتُ إلى دراستي بعدما مدَّني أبي بالمال اللازم بعدما أتاه مشروع عمِل فيه مدَّة طويلة. وصرتُ بين فترة وأخرى أتردَّدُ إليها وأُحضر لها بعض الأغراض لاسيَّما بعدما أقعدها المرض. ولم تلبث أن تعرَّضت لنوبة قلبيَّة أودت بحياتها. وإذ لم يكن لها وريث فقد أورثتني بيتها الذي أسكن فيه الآن. أردتُ لها الشرّ فأرادت لي الخير، فتغلَّبت عليَّ بكرمها، وأجبرتني أن أعاملها بالمِثل. بفضل كرمها ولطفها جعلتني أُدرك حقارة فعلتي التي أردتُ القيام بها.”
ما أغرب هذه القصَّة! كم من إنسان ابتغى الشرَّ لأخيه الإنسان، ولكنَّ كرم الإنسان الثاني وطيبة قلبه وحسن نيَّته تجبر الأوَّل أحيانًا كثيرة أن يعامله بالمثل.فإن أردتَ أن تغلب الشرَّ فاغلبْه لا بالشرّ بل بالخير…