آلام الشجرة

الخوري أنطوان الدويهيّ –

 

الأول نيوز – روى هذه الحادثة لي إنسان مضت سنة على معرفتي به، قال:

“تعرَّفت إلى شخص لطيف للغاية في شركة عملت فيها طيلة خمس سنوات. كنَّا نأكل طعام الغداء يوميًّا معًا. وإذا تأخَّر أحدنا عن العمل، أو اضطرَّ أن يغيب، يأخذ الآخر عمله ويتمِّمه وكأنَّ صاحبه حاضر. كنَّا صديقين بكلِّ ما في الكلمة من معنى، يروي أحدنا أسراره للآخر مهما كانت سرّيَّة دون خجل أو تكلُّف، وقمتُ يومًا بالكذب على المدير العامّ لصالح زميل معنا اضطُرَّ أن يغيب لأنَّ زوجته تعرَّضت لحادث سيَّارة، إذ أكَّدتُ حضوره خوفًا لتعرُّضه للطرد بعد تلقِّيه إنذارًا بذلك في حال غيابه، ولا أحد عرف بغيابه المفاجئ إلاَّ أنا وصديقي. وتقدَّم المدير العام يومًا ليختار واحدًا من موظَّفي القسم لاستلام إدارة فرع من الشركة، وكنتُ من أفضل الموظَّفين الذين يستحقُّون الحصول على هذا المنصب. ولكنَّني تفاجأت أنَّ المدير العامّ يستدعيني ليصرفني قائلاً لي: كنتُ واثقًا أنَّك الشخص الأنسب لهذا المنصب، لكنَّني تفاجأت من أحد زملائك يخبرني أنَّك كذبت عليَّ بشأن ذاك الذي أنذرته ثلاث مرَّات لتقاعسه في العمل. فأنت وإيَّاه تُعتبران من الآن مفصولين، فلا يمكن الركون إلى موظَّف يكذب على رئيسه… نعم، خانني صديقي ليستلم إدارة القسم بينما أفقد أنا والزميل الآخر وظيفتنا…”.

كثيرًا ما يقع الإنسان ضحيَّة الثقة التي يضعها في الآخرين. يحسب هذا صديقًا وآخر أمينًا وآخر وفيًّا، وعند أقلّ حادثة تقع بين الاثنين يخون الواحد الآخر ويروي أسرارًا تقضي على سمعة الآخر ومكانته بين الناس والمجتمع.

أصبحنا في عصر قلَّت فيه الأمانة بعدما أصبح الانفصال سهلاً بين المتزوِّجين، لا يفكِّرون إلاَّ براحتهم دون التفكير بما يؤول ذلك من تعقيدات في حياة أطفالهم ونفسيَّاتهم. أضحى الطلاق مستباحًا لأتفه الأسباب. لم تعد التضحية في قاموس القسم الكبير من أبناء هذا العصر وبناته. والصداقة كلمة أصبحت لديهم من المستحيلات. فالعلاقات الأكثر أهمّيَّة هي تلك التي يُجنى منها الربح المادّيّ، والعلاقات الإنسانيَّة هي آنيَّة بل عابرة.

ولكن، بينما أكتب هذه الكلمات، وصلتني مجموعة من الصور لجماعة جمعها تفكير واحد، هو دعم أحدهم للآخر، ومساعدة أشخاص يحتاجون فعلاً إلى مساعدة. التقوا ليعيِّدوا معًا عيدهم الدينيّ الكبير، ويمكنني أن أقول إنَّهم اجتمعوا ليعيِّدوا اتِّحادهم المتين بعد مرور أكثر من خمس وعشرين سنة يجتمعون معًا بشكل دوريّ دون انقطاع، يفرحون معًا، يأكلون معًا، يصلُّون معًا، يقومون بأعمال مبرورة تجاه فئات المجتمع الأكثر حاجة…

هناك مقولة استوقفتني كثيرًا أوردها وهي مطابقة لكلامي: “ما يؤلم الشجرة ليست الفأس التي تقطعها، ما يؤلمها حقًّا أنَّ يد الفأس من خشبها…”. وتأتي على رأسي مقولة أخرى تقول: “صرخت الخشبة من المسمار: إنَّك تؤلمني وأنت تغرز جسمك فيَّ. فأجابها: ولكنَّك لا تدركين مقدار الألم الذي أعانيه عندما تنزل المطرقة على رأسي”.

كم هو مرير من يلقى النكران والخذلان بل الخيانة من أقرب المقرَّبين إليه! وكم هو سعيد ذلك الذي يجد صديقًا أو جماعة يعيش معها في اتِّحاد ووئام وسلام

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

السادية في التعامل مع أهل غزة: حين يتحول الإيذاء إلى سياسة ممنهجة

الأول نيوز – [صلاح ابو هنود] مخرج و كاتب منذ ما يزيد على 17 عامًا، …