جميل النمري
كنت يافعا ومهتما بالسياسة بما يكفي لمتابعة دقائق ما ينشر بعد تلك الهزيمة الصاعقة الماحقة. أي أساطير كانت تنتشر بين الناس العطشى لأي معلومة ! المتهفة لفهم شيء مما حدث ! لقد تكفل الزمن بغربلة الأساطير المبررة للهزيمة الكارثية واتضح أن الابعاد الاستخبارية والتواطؤ والاختراقات وهي كانت موجودة بالفعل لم تكن إلا جزءا من حقيقة الفارق الهائل في واقع الطرفين. كان الاسرائيليون “شذاذ الآفاق” متقدمين علينا في كل شيء في التفكير والتحضير والتخطيط والتنظيم والإلتزام والمعرفة والتسليح بل والعدد أيضا .. بعكس الوهم السائد. فقد كانت “دولة العصابات” قادرة على ان تضع من الاحتياط تحت السلاح في يومين أكثر من عدد الجيش المصري كاملا.
المد القومي والناصرية صنعا أمجادا معنوية وبلاغية اكثر مما صنعا تقدما اقتصاديا اجتماعيا ومؤسسيا. لقد حصل تقدم في التنمية والتصنيع أكثر تواضعا من الخطاب الهادر الذي أحاط بهما والدولة كانت أكثر تخلفا وأكثر تهلهلا من الصورة المهيبة ومن السطوة الداخلية على شعبها، فكانت الصدمة بالوقائع التي صنعت الهزيمة مضاعفة.
لقد بدأ عصر التنوير العربي أواخر الحقبة العثمانية واستمر اثناء وبعد مرحلة الاستعمار لكن اغتصاب فلسطين والنكبة صنعا اضطرابا عظيما ثقافيا وسياسيا في الشرق العربي قطع خط التنوي، وصعد الخطاب القومي والثوري الذي قدم بعد النكبة بلاغة وخطابة ومكابرة وليس تشخيصا وحلولا صحيحة، والبلاغة كميدان لتحقيق الذات والشعور بالانجازهو خصوصية ثقافة عربية تاريخية ميزت حضارتنا من ايام العرب الاولى في سوق عكاظ فالبيان هو ميدان المقارعة الأعظم المكتسب من البيئة الصحراوية والبداوة حيث لا استقرار ولا زراعة ولا بناء فقد كان لدينا اللغة فقط ننحت ونبني منها قصورالشعر والخطابة، بعكس الحضارات الزراعية في النيل وما بين النهرين وفارس وروما وأثينا. وكل ما بني بعد الفتوحات من إرث وآثار كان في مناطق الحضارات الأخرى وبتأثير منها في الشريط الضخم الممتد من جنوب آسيا الى شمال افريقيا.
فقد بدأنا نحن ودول شرق آسيا في الستينات من مستوى واحد في معدل الناتج الوطني الاجمالي وخلال عقدين او ثلاثة تخلفنا عنهم عدة اضعاف. وفي تاريخ الشعوب يحدث ان الهزائم والانكسارات تؤدي الى مراجعة وتغيير وأخذ الأمة في مسار جديد كليا كما حصل للدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية، لكن كلما تأملت في هزيمة حزيران أجد أنها حرفتنا ابعد بالاتجاه الخاطىء وكان لها عواقب مدمرة على مدى العقود التالية. لقد كانت هزيمة ماحقة للذات العربية لم تشف منها ونتج عنها الارتداد الدفاعي للذات الجمعية عن الهوية وكانت بداية المد الديني الذي بدأ يتضح بعد عقد وكان يتعاظم مع كل فشل لاحق بما في ذلك حرب الخليج الثانية.
لقد شهدنا نزوحا بل في الحقيقة هروب شامل الى الوراء، الى أمجاد الماضي التي نشأت صناعة كبرى إحيائية وتجميلية لملاذ وهمي. وفي تقديري ان نمط التدين الذي ساد ويسود اليوم غير مسبوق في أي عصر من تاريخنا الاسلامي. ان العجز والفشل انتج ظاهرة فريدة من الامعان في الهروب والمكابرة وبدل مواجهة حقيقة شخصيتنا الاجتناعية الراهنة جرى تقمص شخصية افتراضية من الماضي المضخم والمتوهم يحميها الطابع الديني الغيبي من المساءلة. إن المحتوى الديني الشفوي أو المكتوب في ما نتلقاه ونستهلكه أو نبثه مباشرة شفويا أو عبر كل الوسائط من الكتب والكاسيتات سابقا وحتى الفضائيات والانترنت حاليا لا يشبه أي شيء قبلنا أو حولنا. انها ظاهرة سيكلوجية سياسية اجتماعية ثقافية جوهرها الهروب الشامل من مواجهة الحقيقة وتحديات الواقع الذي صدمنا بهزائم ماحقة والانغماس في التعويض الذهني والنفسي الذي يوفره التدين والاعتقاد الديني. ولعل هذا ما فاقم حالة الفصام في السلوك الحياتي للأفراد الذي نشهده في حياتنا اليومية فالفرد يقدم حديثا أخلاقيا صارما ثم يفعل النقيض بالممارسة دون أن يرف له جفن. وهو نفس التناقض في الالتزام بين العبادات والمعاملات.
وللخروج من الفصام الشامل بين التصور المعتقدي والواقع فإن بعض أوساط التيارالديني العقائدي المتشوقة لرؤية مجد الماضي يتجسد الآن طورت فقه الجهاد لممارسة العنف المسلح والارهاب، وكلما توسعت هذه الظاهرة زادت التساؤلات عن مدى الاختراق والتوظيف الذي تخضع له هذه الجماعات. وآخر الظواهر الكارثية لتحويل الدين الى مشروع سياسي هو تحول التعدد المذهبي الى حرب دينية بين المشاريع المختلفة للدول والجماعات.
هل ثمة اسقاط وقسر في التفسير اعلاه ؟! ربما لكنني على قناعة أن حزيران ٦٧ كان محطة مفصلية في الانحراف الذي أوصلنا لما نحن فيه اليوم. وان تلك الهزيمة هي سر نصف قرن لاحق من التعثر والارتداد والفشل.