الأول نيوز – أقام منتدى الرواد الكبار يوم السبت ندوة تناولت مضامين كتاب الدكتور غسان عبد الخالق “البلاغة السياسية من منظور حضاري”، الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”.
شارك في الندوة كل من الناقد الدكتور عبدالرحيم المراشدة، والكاتب محمد جميعان، والقاص جعفر العقيلي، وأدارتها المستشارة الثقافية للمنتدى القاصة سحر ملص.
حضر الندوة عدد من رواد المنتدى، إلى جانب مديرته هيفاء البشير، التي رحبت بالحضور قائلة: “أهلاً وسهلاً بكم في هذه الأمسية الطيبة التي نستضيف فيها الأساتذة الأفاضل: د. عبدالرحيم المراشدة، والكاتب محمد سلام جميعان، والقاص جعفر العقيلي، ضمن ندوة تناقش كتاب د. غسان عبد الخالق “البلاغة السياسية من منظور حضاري”، الذي يتزامن صدوره مع ما نشهده من صراعات وتقلبات سياسية عالمية، خاصة في الوطن العربي”.
وأضافت البشير: “لكل علم مفتاحه الخاص الذي يقود إلى جوهره، وللسياسة مفاتيحها التي تعتمد على الخطاب السياسي، وتأثيره في الجمهور، والقدرة على إقناع الشعوب. كم من خطب سياسية كان لها تأثير كبير عبر التاريخ. لذلك، يسعدنا أن نلتقي الليلة هنا للاستماع إلى الأساتذة الأفاضل، لتسليط الضوء على هذا المنجز المهم للدكتور غسان”.
من جانبه، أشار محمد سلام جميعان في ورقته التي حملت عنوان “يقظة الفكر ووعي المُفكِّر”: “أشعر بيقظة فكرية ومعرفية جديدة، فشجرة هذا النشاط الثقافي الليلة تحمل ثمارًا طيبة تمنح النفس لذة المعرفة. إن الفكر الأصيل والثقافة الرفيعة والتثقيف الجيد الذي يجتمع في هذا الكتاب الذي نحتفي به في هذه الأوقات العامرة بحضوركم، هو أساس كل يقظة حقيقية، لأنه قوام كل حضارة حقيقية.”
وأوضح جميعان أن الكتاب يمتاز بأنه يحوّل المعرفة العلمية المجردة إلى معرفة حياتية مُشخّصة، موضحًا ما يلي: “الكتب الثلاثة التي يتضمنها هذا المجلد تدور فكرتها الكلية حول السلطة والثقافة وحركة المجتمع العربي الإسلامي سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، والوظائف والأدوار التي لعبها كل من السياسي والفقيه والأديب/ المثقف في تكريس شرعية السلطة ومشروعية ممارساتها في مواجهة العقائديات والمذهبيات.”
وأضاف جميعان أن المتأمل في بلاغة الشارع العربي وفي سياق أحداث ما يُسمّى “الربيع العربي” يجد أن الحديث عن الشارع العربي هنا ليس حديثًا نظريًا تأمليًا، بل هو فكر عملي وحياتي معاش، من خلال المعجم البلاغي الشفاهي الذي رصد الباحث أيقوناته ومفرداته.
وأشار جميعان إلى أن مؤلف “كتاب بلاغة السلطة” يقف على مقدمات كتب لأعلام أسهموا في إبداع الثقافة العربية، مثل الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، وابن قتيبة في أدب الكاتب، وإبراهيم الصولي في رسائله، وكيف تجلت الصراعات المذهبية وتصاعدت في آفاق أساليب الكتابة العربية بفعل النزعات المذهبية. وبالقدر الذي تكشف فيه هذه الكتب، التي تناولها المؤلف بالتحليل، عن تحولات الثقافة العربية، فإنها تكشف كذلك عن انحيازها للمذهب العقائدي لكاتبيها واستمالتهم للسلطان وتغريدهم في سربه، حيث انحازت لشكلانيتها المفرطة التي سادت أساليب الكتاب، بتوظيفهم لبلاغتهم بمعناها السياسي والفني الأدبي.
وخلص جميعان إلى أن عبدالخالق اتباع المنهجية البحثية المنضبطة في استقراءاته وتحليلاته، فهي منهجية تقوم على الأخذ بالأنساق المعرفية التكاملية، حيث حرر النصوص المبحوثة من التشويهات والتحريفات، ولم يُسلّم بما هو شائع ومُتداول على أقلام الباحثين الذين سبقوه في تفسير الظواهر وتعليلها. فقد أعفَى نفسه من عبء السجال الثقافي والسياسي الراهن بفضل اتكائه على الماضي تاريخيًا.
من جهته، قال الدكتور عبدالرحيم المراشدة إن كتاب الدكتور غسان عبد الخالق هو تشكيل قراءة فاحصة وجديدة، في آن واحد، للتراث العربي البلاغي بشكل خاص، وما علق به من أفكار وسياسات ومؤثرات… إلخ. وركز الكتاب على مسائل حساسة غيرت اتجاه التاريخ الحضاري لأمتنا، وبخاصة عندما تناول مرحلة الحكم العباسي، والمهيمنات التي بدأت تتحكم في مساره، بحيث أضفت عليه نوعًا من التكرار والجمود إلى حد القداسة في بعض المفاصل التاريخية. كما أعطى الكتاب مساحة لافتة لحكم المتوكل، لما شهدته تلك الفترة من حركات وقضايا مؤثرة، مثل تلك التي استمرت لعقود بعد ذلك، وأصبحت جزءًا من الذهنية العربية الناقدة. وعليه، يحاول ناقدنا أن لا يكتفي بمحاكمة النص على سبيل “نقد النقد” فقط، بل يقدم لنا طروحات لتخليص البلاغة مما علق بها من مسائل أدت إلى جمودها.
وأشار المراشدة إلى أن المؤلف لم يقتصر على تقويض البلاغة التقليدية بطريقة وصفية فحسب، بل تجاوز ذلك ليقوم بمحاكمتها من الداخل، موضحًا عيوب المسار الذي هيمن على بنية التفكير البلاغي لدى العرب. وقد فعل ذلك من خلال استعراض طرائق التفكير التي ترتبط بحركية البلاغة الغربية وما نقلته لنا من مفاهيم ومصطلحات. فقد أدت الهيمنة الغربية إلى ابتلاعنا للكثير من المصطلحات الغربية، التي أصبحت تهيمن على مفاهيمنا وعقولنا. هذه الهيمنة السلبية أسهمت في تعزيز التبعية الثقافية لحضارة الآخر، وجعلت العقل العربي يتكيف مع مفاهيم لا تتوافق مع حضارتنا وقيمنا وعاداتنا. يبدو أن المؤلف، من خلال مشروعه، يسعى جاهدًا إلى تعديل سلوك استقبال ثقافة الآخر وتصويب ما رسخ في الذاكرة العربية من آثار أدت إلى تشويه بنية التفكير البلاغي المعاصر.”
وخلص المراشدة إلى أن عبد الخالق يمتلك جرأة لافتة في تقويض بعض ما كان يُعتبر من المسلمات في المصنفات البلاغية المهمة، التي لم يكن من السهل تناولها بشكل سلبي أو نقد ما فيها من عيوب، مثلما هو الحال مع أعمال الجاحظ، خصوصًا في كتابيْه “البيان والتبيين”، و”رسائل الجاحظ”، ويظهر في تعرية النصوص السلبية الواردة في هذين الكتابين نوع من مساءلة البلاغة التقليدية ومحاورتها، مع تقديم رؤية نقدية حولها. وقد سعى عبد الخالق، من خلال ذلك، إلى محاولة تثوير قضايا كانت تُعتبر مسلمات في الدرس النقدي التقليدي. يسهم هذا الاتجاه في تجديد البلاغة العربية، بما يتناسب مع تحولات الدرس البلاغي الحضاري، برؤية عربية واضحة المعالم.”
فيما قدّم الناشر جعفر العقيلي مداخلة حول المؤلف قائلاً إن عبد الخالق كان في وقت مبكر مستشاراً لمؤسسة عبد الحميد شومان، وأنه يتمتع بشخصية عبقرية تذكره بأمثالٍ قدموا الفريد والمختلف في وقت مبكر. فهو شخص متميز، يختلف عن السائد. كما أنه كان زميلاً لي في رابطة الكتاب الأردنيين، حيث كنا ننتمي إلى تيارين مختلفين”.
وتحدث العقيلي عن تجربة عبد الخالق “العابرة للحقول”، على حد تعبيره، قائلاً إنها تتوزع بين الأكاديمي والثقافي والنقابي والإبداعي، الذي يتجلى في كتاباته للقصة القصيرة والرواية والسيرة والنقد والفكر. وتوقف العقيلي عند بعض السمات التي عرفها في شخصية عبد الخالق، ومنها الوفاء بالبدايات، والذاكرة المضيئة، والجديّة في إنجاز المشاريع، بدءاً من وضع تصور واضح للمشروع وانتهاءً بتنفيذه وفقاً للمخطط الزمني المرسوم. وهذا ما تجلّى في مشروعه الفكري بوضوح، وتحديداً في “موسوعة البلاغة السياسية.
في نهاية الندوة، شكر المؤلف د. غسان عبد الخالق الزملاء النقاد الذين تحدثوا عن مشروعه الثقافي البلاغي النقدي، قائلاً: “إن بلاغة الصورة الآن سحبت البساط من تحت أرجل الباحثين الشكلانيين الذين يعانون انفصالاً حاداً عن الواقع، لأن ما يصلنا عبر وسائل الإعلام ونوافذ التواصل يلزمنا بالنظر إلى السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأدبية بعين الاعتبار الشديد، وعلى نحو يؤكد أن الاستمرار في اقتصار الورشة البلاغية على بعض الشواهد والأمثال، ما هو إلا ضرب من ضروب دفن الرؤوس في الرمال”.
ورأى عبدالخالق أن جدلية السلطة والسلطة الموازية في الوطن العربي قد أُنتِجت وما زالت تُنتَج، وستظل تُنتَج على نحو مأساوي (والشواهد الراهنة أكبر برهان)، ما لم يتم التوافق على إرساء منهجيات التفكير العقلاني النقدي الواقعي من جهة، وما لم يتم تحليل بلاغة الشارع أو خطاب الجمهور من جهة ثانية، وما لم يتم فهم بلاغة السلطة أو خطاب المؤسسة الرسمية من جهة ثالثة.