النشر المكثف عن القوات المسلحة الأردنية والأمن العام بين الخصوصية والمخاطر

الأول نيوز – د. حسين سالم السرحان

هي حالة أردنية بامتياز، ولعلها غير موجودة بذات السياق في أي بلد آخر. ففي الآونة الأخيرة، شهدنا زيادة ملحوظة في وتيرة النشر الإعلامي، لا سيّما على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يتعلق بالقوات المسلحة الأردنية، والأجهزة الأمنية، ووحداتها وتشكيلاتها المختلفة.

من أخبار التنقلات، والترفيعات، والإحالات، إلى تسميات القادة ومواقع انتشار الوحدات؛ أصبح هذا النوع من المعلومات متاحًا للعامة، بل وسهل الوصول إليه، وأحيانًا بتفاصيل دقيقة كانت تُعدّ في السابق ضمن الخطوط الحمراء.

هذا الانفتاح الإعلامي غير المسبوق بهذا الزخم والشكل، وإن كان يُراد به في بعض جوانبه تعزيز الثقة العامة بالمؤسسات الأمنية والعسكرية، إلا أن الواقع يشير إلى أن التمادي فيه بات يشكّل تهديدًا حقيقيًا للخصوصية المؤسسية، ولأمن هذه القطاعات الحيوية.

وخاصة إذا ما نُظر إلى الأمر من زوايا مهنية واستراتيجية تتعلق بطبيعة عمل هذه الجهات ومجالات اختصاصها، التي تتطلب قدرًا عاليًا من التحفظ والسرية. فنشر معلومات متكررة ومفصلة عن مواقع التمركز، وأسماء القادة، وحجم التنقلات، لا يشكّل فقط خرقًا للخصوصية، بل قد يُستخدم – بقصد أو دون قصد – من قِبل جهات خارجية أو داخلية لرصد الأنماط العسكرية والأمنية داخل الدولة. وهذا، في ظل ما يشهده العالم من تطور في أدوات الحرب السيبرانية والاستخباراتية، يمثل ثغرة حقيقية كان الأولى إغلاقها لا توسيعها. فالخصوصية في المؤسسات العسكرية ليست ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة أمنية واستراتيجية لحمايتها من الاستهداف، سواء أكان استهدافًا إلكترونيًا أو معلوماتيًا أو حتى بشريًا.

ومن الظواهر اللافتة المرتبطة بموضوع النشر، الحضور الكبير والمتنامي للعاملين في الأجهزة العسكرية والأمنية على منصات التواصل الاجتماعي، سواء بأسمائهم الصريحة أو عبر معرفات غير معلنة. وغالبًا ما يتجاوز هذا الحضور حدود المتابعة ليصل إلى النقاش، والتعليق، وأحيانًا إلى المشاركة في جدالات سياسية أو مناطقية أو حتى رياضية. وما يثير القلق هنا ليس فقط خرق القواعد المعروفة للضبط والربط العسكري، بل أيضًا تورط بعض المنتسبين في قضايا الرأي، والانتخابات، والتكتلات العشائرية، وهو ما يتنافى صراحةً مع القوانين التي تمنع العسكريين من ممارسة الأنشطة السياسية أو الانتخابية أثناء الخدمة.

لقد أصبح من المألوف رؤية عسكريين يناقشون، بل وينقسمون، حول مرشحين في الانتخابات النيابية أو البلدية، ويشاركون – ربما بحسن نية – في تعزيز الانقسامات المجتمعية في مناطقهم. وفي يوم الاقتراع، لا تجد سوى أصداء لصوتهم الذي كان حاضرًا طوال فترة الدعاية الانتخابية، في مخالفة صريحة للقانون، وخرق غير مقبول لحيادية المؤسسة العسكرية.

إن التعامل الإعلامي مع أخبار الترفيعات والتنقلات والإحالات في المؤسسات الأمنية والعسكرية، كما لو أنها أخبار شركات تجارية أو منظمات مجتمع مدني، يُعدّ خطأً جسيمًا ينبغي التنبه إليه.

فهذه المؤسسات لا تعمل في الفضاء المدني الاعتيادي، ولا تمارس أعمالها وفق منطق الربح والخسارة، بل هي الذراع الحامية للدولة وهيبتها واستقرارها. والتساهل من بعض الجهات في تسريب أو نشر هذه الأخبار، دون مراعاة للاعتبارات الأمنية، يُعدّ إما استسهالًا خطيرًا أو غيابًا للرؤية الاستراتيجية. والنتيجة أن هذه المعلومات قد تُستخدم لإضعاف تماسك الصف العسكري، أو لاستهداف شخصيات بعينها داخل المؤسسة، أو ببساطة لتحليل البنية الداخلية للقوة النظامية في الأردن.

المطلوب اليوم ليس فقط وقف هذا التسيب، بل وضع ضوابط واضحة ومُلزمة للنشر، وتحديث التعليمات المتعلقة بحضور العسكريين على منصات التواصل، وضمان التزامهم الصارم بالقوانين التي تحظر مشاركتهم في الحياة السياسية أثناء الخدمة. كما ينبغي على الجهات الإعلامية والأمنية التعاون بشكل أكبر لضمان أن أي نشر يتم وفق مصلحة الدولة، لا مصلحة لحظية أو “سبق صحفي”. فليس كل ما يُعرف يُنشر، وليس كل ما يُنشر يُسمح به.

إن حماية هيبة المؤسسات العسكرية والأمنية، وخصوصيتها، وسريتها، هي مسؤولية جماعية تبدأ من القوانين، وتمر بالتنظيم، وتنتهي عند الوعي المجتمعي. ولا بد من الوقوف عند هذه الظاهرة قبل أن تتسع أكثر، لأنها ليست مجرد زيادة في النشر، بل تحوّل في الثقافة العامة تجاه مؤسسات ينبغي أن تبقى على مسافة آمنة من الضجيج الإعلامي والتفاعلات الفوضوية.

عن Alaa

شاهد أيضاً

أهل كهفٍ أم أهل الكهف؟

ذوقان عبيدات – الأول نيوز – اهتم المسلمون كثيرًا بسورة أهل الكهف، واستخلصوا منها دروسًا …