الأول نيوز – صلاح ابو هنود –
مخرج وكاتب –
الأول نيوز – لم تكن إسرائيل يوماً مجرد كيان سياسي في نظر الغرب، بل قُدِّمت بوصفها “أسطورة” حيكت بعناية: دولة صغيرة محاطة بالأعداء، واحة ديمقراطية وسط صحراء استبداد، بطلة تقف على خشبة المسرح الدولي لتؤدي دور الضحية المنتصرة في آنٍ واحد. تلك الصورة غذّتها السينما، والرواية، والمناهج التعليمية، ودعمتها آلة إعلامية هائلة.
لكن هذه الشرعية التي كانت تمنحها قطاعات واسعة من العالم الغربي بدأت تتآكل بسرعة. لم تعد الرواية الإسرائيلية تقنع الأجيال الجديدة، ولم يعد خطاب “الاستثناء الأخلاقي” مقنعاً أمام الصور القادمة من غزة، حيث يختصر طفل يركض بين الركام كل المعادلات السياسية.
إن ما يواجه إسرائيل اليوم ليس مجرد نقد سياسي، بل انهيار في ذاكرتها المصنوعة. الذاكرة الحقيقية التي يبنيها الفلسطينيون باتت أكثر رسوخاً: في الأغاني التي تحفظها الأمهات، في الأفلام الوثائقية التي تُعرض في الجامعات، في الروايات والشهادات الحية التي تروي تفاصيل الحياة والموت تحت الحصار. هذه الذاكرة الإنسانية تتفوق على السردية الرسمية المصطنعة، لأنها تنبض بالدم والدمع والكرامة.
أسطول الحرية كان علامة فارقة، إذ فتح ثغرة كبيرة في جدار الرواية الإسرائيلية وأظهر هشاشتها. هدير الشوارع الأوروبية والأميركية في المظاهرات الأخيرة كشف أن الرأي العام لم يعد مسلماً بمقولات “الدفاع عن النفس” و”الأمن القومي”. وهناك أيضاً آلاف التفاصيل الصغيرة، من لوحات الفنانين إلى قصائد الشعراء، كلها تسهم في تشييد سردية مضادة تُحاصر إسرائيل في صورتها الجديدة: دولة استعمارية عنيفة فقدت قدرتها على إقناع حتى أقرب حلفائها.
لقد غادرت إسرائيل المسرح الذي احتكرته لعقود بوصفها “البطلة”، وها هي تواجه الحقيقة المرة: أطفال غزة، ومعهم الجوع والحرمان، هزموا أسطورة القوة. لم تعد الدبابات والطائرات تصنع النصر في زمنٍ تُحسم فيه المعارك على مستوى الصورة والذاكرة والضمير الإنساني.
العالم يتغير، والشرعية تُصاغ من جديد. وفي قلب هذا التحول يقف الفلسطيني – بدمه، بجوعه، بصلابته – شاهداً على أن البطولات لا تُمنح في المؤتمرات، بل تُصنع في الشوارع وبين الأنقاض.