صلاح ابو هنود – الأول نيوز –
مخرج وكاتب –
طوال سنوات عملي في الإخراج، مرّت أمامي اللهجات كما تمرّ المواسم على أرضٍ واحدة.
في كل مسلسل، كنت أستمع إلى العربية بأصواتها كلها الفصحى العالية ذات الحلالة والبدوية الصافية التي تشبه النسيم في الصحراء، والمدنية والريفية اللينة التي تشبه الزحام ورائحة القهوة.
كنتُ أطلب من الممثل أن يخرج من لهجته اليومية، أن يتكلم بلسانٍ آخر لا يسكنه، كأنني أطلب منه أن يستعير حياةً جديدة.
وكان هذا هو الأصعب: أن تُقنع الممثل أن اللهجة ليست قناعًا صوتيًا،
بل وجدان، وتاريخ، وطريقة في التفكير.
كنت أقول لهم دائمًا:
الحروف أرواح، يجب أن نحترمها ولا ننقص من حقها شيئًا.
فإذا اعتديتَ على كينونة الحرف، كأنك قطعت أطراف البشر.
من هنا بدأت أرى أن قلب الحروف ليس مجرد اختلاف نطق، بل خريطة بشرية.
القاف التي تتحوّل “گ” في الريف، أو همزة في المدينة، ليست لهوًا لسانياً،
إنما أثر من هجرةٍ قديمة، من قبيلةٍ عبرت البحر أو الصحراء وتركَت صوتها في فم الأجيال.
كل لهجة هي وثيقة هوية، وكل حرفٍ فيها شاهدٌ على انتقال الإنسان من مكان إلى مكان، من زمنٍ إلى زمن.
في المسلسلات التي جمعت البادية بالمدينة، كنت أرى كيف تُفصح الحروف عن انتماء أصحابها دون أن يقصدوا.
كلمة واحدة تكشف الطبقة الاجتماعية، والموقف من السلطة، والموقع من الذاكرة.
بل إن اللهجات تكشف أحيانًا أكثر مما تكشف الحوارات نفسها.
لقد تعلّمت من تجربتي أن الحروف كالممثلين: لكل منها نَفَس ومزاج وماضٍ خفيّ. وأن المخرج حين يطلب من الحرف أن يتغيّر، إنما يطلب من التاريخ أن يعيد ترتيب صوته.
إن دراسة قلب الحروف ليست بحثًا لغويًا فقط، بل قراءة في ذاكرة الإنسان العربي.
فالأصوات التي تخرج من أفواهنا اليوم تحمل آثار ممالك وغزوات وأسفار وأسواق.
وحين نصغي جيدًا للهجاتنا، نسمع أنين المدن القديمة، ووقع أقدام القوافل، وضحكة الأجداد على طريق العودة.
في النهاية، أدركت أن اللغة ليست شيئًا نملكه، بل كائن يربينا وينطقنا كما ننطقه.
وأن تنوّع اللهجات ليس انقسامًا، بل تنوّع في موسيقى العروبة نفسها.
كل لهجة مقام، وكل حرف آلة، ومن مجموعها تتكوّن السمفونية الكبرى التي اسمها اللغة العربية.