السبت , سبتمبر 21 2024 رئيس التحرير: أسامة الرنتيسي

قصة رغيف الخبز بين عبق الماضي والبورصة العالمية

د. شهاب المكاحله — واشنطن –

كنا نجتمع حول أمهاتنا في الماضي القريب لمراقبة آلية صناعة الخبز بعد أن كنَ يعجنّ ثم يخبزنّ أطيب انواع الخبز بعاطفتهنّ وحبهنّ لأسرهنّ. إنه الخبز السحري الذي كانت تفوح رائحته عند بعد عشرات الأمتار. كم هي جميلة تلك الأيام والذكريات وكم نتوق إلى تلك الحياة!!!. إنه خبز تلك الأمهات المكافحات اللاتي كنّ يعجنّ بأيديهنّ أطيب أنواع الخبز الذي عاشت عليه أجيال وأجيال وتخرج على مدرسته رجال!!! إنه بحق خبز لا يوصف بكلمات. إنه الخبز الذي تطغى رائحته على كل العطور الفرنسية والبخور والزهور!!!
فلنبدأ بقصة الخبز وحكاية العشق الأبدي لهذا الـ”مخلوق السحري”. ذات يوم سأل الرئيس الأميركي الأسبق هربرت هووفر عن الكلمة الفصل في الحروب لمن تكون: فأجاب لفوهات المدافع أما الكلمة الأخيرة فهي للخبز. هذه البداية لقصتي مع الخبز وحكاية ألف ليلة وليلة مع رغيف الخبز. ذات يوم وبينما أنا مسافر إلى واشنطن، طلبتُ من المضيفة أن تحضرَ لي المزيد من الخبز: فما كان منها إلا أن ابتسمت وقالت: ظننتكَ أجنبياً طوال الوقت رغم أنني قرأت اسمك على القائمة هناك ولم أعرف أنك عربي. ولكن طلبك لرغيف الخبز أثار في نفسي الفضول لسؤالك من أين أنت؟
 فابتسمتُ لها وقلتُ: أنا من بلد الحكايات ومن بلد التاريخ والذكريات. في بلادنا– أي بلاد الشام — نعشق الخبز ومشتقاته. فلدينا وجبات نعدها من الخبز فقط: خبز حاف، خبز مع الشاي، خبز مع الحليب أو ما يسمى “فتة الحليب” وقد يضاف إليها الزبدة أو السمن البلدي وغيره الكثير. فهو للفقير يقارع كعك الغني أو يحاكي بسكويت ماري أنطوانيت في باريس.
ضحكت المضيفة وقالت: أأنت سياسي؟
قلت لها: ليس تماماً؟ هل لأنني أطالب بالمزيد من الخبر أصبحت سياسياً؟ نحن تعودنا أن نعيش على الخبز فلو أكلنا الخبز وحده لكان لنا وجبة كاملة. فهو وجبة الفقير. واليوم أصبح رغيف الخبز عملة صعبة بل أصعب من سلة العملات والذهب.
ذهبت المضيفة وقالت لي: هذه سلة من الخبز الساخن والشاي والزبدة وغيرها مثل المربى.
قلت لها: إن الخبز يا سيدتي “سيد المطبخ” وخصوصاً في الأوقات العصيبة والأزمات. نحن نأكل الخبز مع كل الوجبات ومع كل الأكلات. كان خبز القمح في الماضي القريب طعام الأثرياء أما الفقراء فكان زادهم خبز الشعير والنوى. ببساطه إن رغيف الخبز غذاء مقدس والمساس بمكوناته وسعره خط أحمر. ولكن للأسف حين كنا نزرع القمح كنا نأكل مما نزرع واليوم نأكل مما يزرعون ويُصدرون لنا فبتنا سلعة أو كما يقولون “Item” أو في أحسن حال “Clients” يتحكمون بهن وبمصيرنا عن بعد.  
نحن نقدس الخبز حتى أننا إذا عثرنا على  كسرة خبز ملقاة على الأرض نأخها ونقبلها وكأنها عزيزة علينا – وهذه الأيام باتت الغالية كثيراً علينا –نضعها في مكان عالٍ ليأكلها الطير أو الماعز. فالخبز عديل الروح و”الخبز الحاف يعرض الكتاف” كلها عبارات شبت الأجيال عليها. كما قُدِس الخبزُ في الأديان السماوية كلها.
نظرت إلي المضيفة الأميركية قائلة: ماذا عن اللحوم وغيرها؟
قلت لها: أنا لا أفهم في اللحوم كثيراً بل أنا من عشاق الخبز والنبات أكثر من عشقي للحوم ومشتقاتها.
فقالت: وما هي قصة الخبز وماري أنطوانيت التي تحدثت عنها فأنا أجهل التاريخ الفرنسي؟
 قلت لها: ياسيدتي عندك عمل الآن ولا أريد أن أشغلك بحديث قد يكون مملاً؟
 قالت لا فأنا كبيرة المضيفين هنا وأنا أستمتع بالحديث معك؟
قلت: حين قامت الثورة الفرنسية، لم يكن الفرنسيون جياعاً فقط بل كانوا عاطلين عن العمل ولا يرون أن الحكومات الفرنسية تأخذ مطالبهم بشكل جاد لعدة سنين. وما زاد الطين بلة حين قالت ملكة فرنسا آنذاك– ماري أنطوانيت — لحظة أبلغوها أن الشعب جائع ولا يجد ما يأكله: “من لا يجد الخبز فليأكل الكعك”. هي العبارة التي أودت بحياتها وحياة من كان معها. كنا في الماضي لا نعرف قيمة الخبز واليوم وبعد أن أُدرج الخبز الأردني في البورصة أدرك الناس أنهم كان في نعمة كانوا عنها غافلين. وهذا يذكرني بمقولة للكاتب الفرنسي الشهير”لا برويير” حين تحدث عن النعم التي أنعم الله عليها على البشر بالقول: يغفل الناس عن إدراك النعم وقيمتها. واليوم لا يُدرَك قيمة الخبز إلا بعد ضياع الرغيف نفسه.  وبتنا ما بين مؤيد للرفع ومن يندد به لأنه قوت المواطن البسيط.
استميح المتنبي عذراُ في عجز البيت حين تحدث عن العيد وأنا هنا أقول شعراً عن الخبز من بنات شعري:
رغيف بأية حال عدت يا صاحي    (بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ)
هذا النزال الناري بات في ساحيِ     من مؤيد للرفع ومن همُه التنديدُ
فنظرت إلي المضيفة وقالت: أكمل؟ هل كل هذا عن الخبز؟
قلت لها: الخبز له قصة معقدة. فهو ممزوج بالسياسة والثقافة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والعلوم كافة فهو معجون بعرق المواطن وتعبه وكدُ جبينه. إذا ارتفع سعر النفط ارتفع سعر الخبز وإذا هبط سعر النفظ لا يهبط سعر الخبز وهو عكس نظرية العرض والطلب في الاقتصاد. حين كنا نزرع القمح في سهول إربد وقراها (سهول حوران) وسهول مادبا وعمَان وغيرها من المناطق في الأردن كنا لا نخشى بورصة القمح العالمية وكنا نأكل مما نزرع فلم يكن قرارنا بأيدي غيرنا. واليوم ركبنا موجة السيارات الفارهة والمقاهي والمولات والانتقال من الانتاجية إلى اللانتاجية، صرنا عبيدنا لما يُقرر في عواصم خارجية تضغط علينا برغيف الخبز والمساعدات. بتنا نرى في وجه المواطن الأردني تجاعيد سطَرها الهم والحزن والأسى، بدت واضحة على وجوه الكثير من الأردنيين  ممن لسان حالهم يقول: ألا ليت الزمان يعود يوماً.
فهل عرفتِ يا سيدتي المضيفة لماذا نأكل الخبز كثيراً في الأردن؟
أجابت وقطرات الدمع في عينيها: فهمتك وفهمت أنك كالخبز البلدي معجون بالسياسة والاقتصاد والعسكرة. ولكن ما هو الحل؟
قلت لها: الحل بسيط يا سيدتي: الموازنة في الموازنة!!!أي “Balancing the Budget”.
قالت: وماذا يعني ذلك!!؟
قلت: أن تذهبي إلى عملك وتأخذي راتبك ولا تخشي من مأزق مالي لقيام مدير الشركة بسرقتها لأن الشركة مساهمة عامة وليست مساهمة خاصة.
قالت: كلام كبير لا يمكن على من مثلي أن يفهمه.
قالت: بقي على الرحلة قرابة 8 ساعات، فهل تحب أن تنام.
قلت: سيدتي: إذا نمت فلن استطيع النوم عند الوصول. ثم إنني إذا ما نمت سأحلم برغيف الخبز لذلك قررت أن أبقى مستيقظاً لأمتع ناظري برغيف الخبز وأستحضره شعراً لابي العتاهية:
رَغيفُ خُبزٍ يَابِسٍ تَأكُلُهُ فِي زَاوِيَهْ 
وَكُوزُ مَاءٍ بَارِدٍ تَشْرَبُهُ مِنْ صَافِيَهْ 
وَغُرفَةٌ ضَيِّقَةٌنَفْسُكَ فِيهَا خَالِيَهْ 
أَوْ مَسجِدٌ بِمَعزِلٍ عَنِ الوَرَى فِي نَاحِيَهْ 
تَقرَأُ فِيهِ مُصحَفاًمُستَنِداً لُسَارِيَهْ
مُعتَبِراً بِمَنْ مَضَى مِنَ القُرُونِ الخَالِيَهْ

 
 


 

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

اليوم الـ350 من العدوان على غزة: دمار مستمر ومجاعة قاتلة

الأول نيوز – تواصلت حرب غزة لليوم الـ350، وسط استمرار القصف الإسرائيلي الذي يستهدف القطاع …