الدكتور ذوقان عبيدات –
شاهدت الأسبوع الماضي حلقة تلفزيونية في نبض البلد، بموضوع المواد الدراسية المقررة لامتحان التوجيهي. وقد ضمنت الحلقة مسؤولا في وزارة التربية وآخر في نقابة المعلمين، إضافة إلى حشد من معلمين ينتمون إلى مواد دراسية : فيزياء، كيمياء، علوم الأرض، الأحياء، الحاسوب.
وقد تبارى المتحدثون في ذكر فضائل موادهم الدراسية إلى الدرجة التي يخيل إلى المشاهد أنهم يتحدثون عن أم العلوم وأم الحياة. فلا أحياء دون فيزياء ولا طب دون كيمياء ولا معرفة دون علوم الأرض. ولا أداة انتاج دون تكنولوجيا الحاسوب. وهكذا استمر كل منهم بالحديث عن أهمية أن يمتحن الطالب في مادته دون أن يتحدث أي منهم عن الطالب وهمومه وحاجاته ومتطلبات نموه أو عن متطلبات التغيير!!.
وأرجو أن أقدم ملاحظات تربوية وعلمية عن موضوعات هذه الحلقة.
(1)
هل نعلّم المادة أم نعلّم الطالب؟
سبق أن تحدثت في مقالة بهذا العنوان وقلت أن مهمتنا هي في تعليم الفيزياء والعلوم والدين والفلسفة. وتعليم المادة يعني تعليم مفاهيم الحرارة والضغط الجوي والفقه والمذاهب الفلسفية … الخ. أما تعليم الطالب فيعني تعليمه كيف يفكر وكيف يقيس وكيف يحلل وكيف ينقد.. الخ. وشتان ما بين المهمتين!. فالمادة الدراسية ليست هدف التعلم إنمّا هي وسيلة لتحقيق الأهداف مهما كانت هذه المادة. وتعليم المادة يعني نقل معلومات. وهذه المعلومات سرعان ما تتعفن وتستبدل وتلغى أو تنسى. ولذلك فإننا نعلم الطالب مهارات:
- كيف ينتج المعلومات والمعرفة.
- كيف يوثق المعرفة.
- كيف يذوّت المعرفة ويجعلها جزءًا من شخصيته.
- كيف ينشر المعرفة ويتبادلها مع الآخرين.
وهذا يعني إننا نعلمه أدوات المعرفة وليس المعرفة بحد ذاتها. وهذه المهارات المتعلمة هي مهارات مستمرة مدى الحياة تتطوّر باستمرار لأنها جزء من الذات، وليست جزءًا من الكتاب.
(2)
ليس للمادة قيمة ذاتية مستقلة عن غيرها
شاع في التربية القديمة أن مادة:
- الدين تعلم الإيمان والسلوك والالتزام.
- اللغة العربية تعلم التحدث والاستماع والكتابة.
- الرياضيات تعلم الرقم والخط والدقة والتفكير.
- العلوم تعلم التجربة والبحث والشك.
- التاريخ تعلم الأصالة واحترام أدوار الآخرين.
وهكذا فإن لكل مادة دراسية قيمة ذاتية تختلف عن قيمة وأهداف أية مادة أخرى. ولذلك صارت كل مادة تحتفظ بجلالها وقيمتها وضررتها.
أما في الفكر التربوي الحديث،وفي الواقع أيضا, فإن جميع المواد تسهم بنفس الدرجة في بناء شخصية الطالب.
فالدين يعلمه التسامح واحترام الآخر والمساواة والدقة والإيمان والشك والمواطنة والالتزام والعاطفة والحب وتقديم النموذج والتفكير وكذلك اللغة العربية تعلمنا نفس المبادئ والقيم والرياضيات والعلوم والتاريخ وغيرها!!
والا هل يجوز أن تهتم مادة ما بقيم مخالفة لمادة أخرى؟
أليس التفكير قيمة عابرة لجميع المواد؟ وكذلك المواطنة وحقوق الانسان والقياس والدقة والموضوعية والمرأة وبناء الشخصية واتخاذ القرار ونبذ التعصب والتطرف؟ هل هناك مادة ضد هذه القيم؟ هل يختلف معلم الدين عن معلم الكيمياء في احترام هذه القيم وتقديرها…
إن قيمة الدقة مثلا هي :
- قيمة دينية في اتباع قواعد وتعليمات ومنطق معين.
- قيمة لغوية في اتباع قواعد وتعليمات ومنطق معين.
- قيمة كيميائية في اتباع قواعد وتعليمات ومنطق معين.
- قيمة فيزيائية في اتباع قواعد وتعليمات ومنطق معين.
- قيمة تاريخية في اتباع قواعد وتعليمات ومنطق معين.
وهكذا.
ما المادة التي تعلم التفكير والنقد والإبداع؟
أليست جميع المواد تسهم متكاملة في ذلك!!!
إذن! معهما كان ما يتعلمه الطالب فإن القيمة هي المنتج النهائي. والاّ ما معنى أن نحفظ الكيمياء دون أن نكون دقيقين في حساب التفاعلات؟ وما معنى أن نحفظ نصًا لغويًا دون أن نكون دقيقين في معرفة الحركات؟
وكذلك في بقين المواد.
ولو غابت مادة فإن المنظومة القيمية أو شخصية الطالب لن تهتزعلما بأن هناك مئات أوآلاف المواد التي لا يدرسها أي طالب في أي مكان في العالم!!
(3)
الطالب : بين التعلم والامتحان
حين فكرت وزارة التربية أن يكون امتحان التوجيهي من مواد اختيارية 3/4، وأن يكون معدل التوجيهي من أعلى مادتين من ثلاث مواد. فإنها قصدت بذلك تنظيم الامتحان وليس تنظيم التعلم.
فالطالب يتعلم الحاسوب وقد لا يمتحن به ويتعلم الفيزياء وقد لا يمتحن بها.
فالتعلم عملية تفاعلية بين الطالب ومادة التعلم وحب التعلم وحب المعلم وحب المادة . وليس عملية بين الطالب والامتحان!! فنحن نتعلم لتحقيق أهداف تسهم في بناء شخصية الطالب سواء تم الامتحان بها أو لم يتم!!
نحن نتعلم يوميا مهارات عديدة ومتنوعة دون أن نمتحن بها.
فليس هناك امتحان في السباحة أو الخطابة أو الكتابة أو المناقشة ، إلاّ إذا كنا مختصين في إحداها! ومن المؤكد أننا لسنا مختصين.
إذن نحن نتعلم من أجل التعلم. وعلينا إسقاط فكرة نتعلم من أجل الامتحان!! ولذلك نتعلم الفيزياء والدين واللغة وعلوم الأرض حتى لو لم تكن إجبارية. وغياب أي منها عن الامتحان ليس أمراًكارثيا! بل إن امتحان التوجيهي لا يجب أن يكون شاملاً لأية مادة إجبارية حتى لو كانت اللغة أو تاريخ الأردن.
هذا لا يعني أبداً التقليل من أهمية هذه المواد، ولذلك أتحيز لفكرة أن يختار الطالب امتحانه من المواد التي يحتاج إليها في تخصصه الجامعي.
(4)
لدينا أكثر من ثلاثة آلاف مادة دراسية مهمة
إن عدد المواد الدراسية يعد بالآلاف. ففي مجال السكان مثلاً هناك مواد
- التنمية البشرية – حقوق الإنسان
- تنظيم الأسرة – حقوق المرأة
- جغرافيا بشرية – العناية بالمواليد
- حجم السكان – الصحة
- السكان والبيئة – الملابس
- الموارد البشرية – التغذية
- الإنسان والبيئة
- الإنسان والحضارة
- المهن المختلفة
- ….الخ
فكل مجال حياتي يرتبط بعدد كبير من المواد الدراسية يعد بالآلاف فهل تعلم الطلاب جميع هذه المواد؟
إن علينا أن نضع معايير لاختيار عينة من هذه المواد لأن من المحال تعليمها كلها. فالمنهج كله عملية اختيارية تمّ من خلالها انتقاء مواد وغالباً ما نكون متعسفين في الاختيار.
فالمعايير هي :
- معايير المنفعة، بمعنى نختار مادة نافعة
- معايير الحداثة ، بمعنى نختار مادة لا صلة لها بالحياة
- معايير حاجات الطالب
- معايير حاجات المجتمع
وجميع هذه المعايير ليست دقيقة. بل ومتغيرة وجدلية
ومن هنا كان المنهج المدرسي ليس سلسلة من المواد الدراسية، بل قيم ونتاجات معرفية مهما كانت المواد التي اخذتاها.
ولذلك لا جريمة في اختيار بعض المواد وإهمال أو غياب أو تقليل مواد أخرى.
(5)
ماذا عن بقاء المعلمين من ذوي المواد الاختيارية
أثار المعلمون تحديات مثل: إذا ألغيت مادة ما فأين يذهب معلمو هذه المادة؟ وعلى الرغم من وجاهة هذا السؤال فإن هذا لا يعني عمليات التطوير أولا، كما لا يعني مصلحة الطلاب أو مصلحة الامتحان، فالطالب ليس مسؤولا عن فرص عمل المعلمين، كما أنه لا يحمل مسؤولية التشغيل.
إن اختيار مادة ما في الامتحان أو عدم اختيارها لن يؤثر على بقاء المادة. فالحاسوب مثلاً أو الفيزياء لا يقتصر تدريسها على الصف الثاني عشر فقط.
قد يتأثر بعض المعلمين الذين يدرسون دروساً خصوصياً في خفض نسبة الملتحقين معهم، الاّ أن ذلك لا صلة له أيضاً بالطلاب.
(6)
نموذج الامتحان المطلوب
ليس عيباً الفصل بين مفهوم التعلم ومفهوم الامتحان وليس سراً أن نقول إن بعض الامتحانات في عدد من الدول تتكون من ورقتين أو ثلاث ورقات، ولماذا لا نفكر بامتحان مكون من مواد مطلوبة للتخصص الجامعي، دون أن تحدد الوزارة أية مواد….
كما أن من المهم أن نعرف استحالة وضع جميع المواد في الخطة الدراسية للطالب، وأن كثيراً من المناهج والخطط الدراسية تنظم على أساس مشكلات أو محاور، وليس مواد دراسية.
إن مشكلة ما مثل المياه، يمكن معالجتها بنصوص من اللغتين، ومواقف تاريخية حول المياه، وجغرافية المياه، والتاريخ ، وحالات فيزيائية للماء. والماء في الأديان المختلفة، والماء في جيولوجيا الأرض. وبذلك نناقش مشكلة واحدة، من خلال مواقف مختلفة من مواد دراسية مختلفة.
وهكذا يمكن أن تحدد عدداً من المشكلات مثل:
- مشكلة الغذاء
- مشكلة الصحة
- مشكلة السكان
- مشكلة الفن
- مشكلة الاقتصاد
وبذا فإن وجود مادة أو غيابها ليس كارثة في المنهج ولا في الامتحان.إنني أستغرب هذه الضجة و دوافعها وأرجو أن تعقد ندوة علمية لمناقشة هذا الموضوع مقدرا جهد الوزارة في إحداث التطوير المطلوب.