الدكتور ذوقان عبيدات –
في محاضرة مهيبة للدكتور عمار علي حسن المفكر المصري المعروف، وبدعوة من مؤسسة فلسطين / د. أسعد عبدالرحمن. برزت أفكار وممارسات وشروحات لما يمكن أن يحدثه التعليم من تطرف.
(1)
العلم الأداتي والتفكير والثقافة
إن العلم التطبيقي كالطب والهندسة يؤدي بالضرورة إلى السير بخط مستقيم، فالطبيب يجتهد لممارسة عمله تطبيقًا حرفيًا لما تعلمه من حقائق. والمهندس يرسم نفس الخطوط التي تعلمها. وبذلك ينتج التعليم أشخاصًا حرفيين – تطبيقيين -. ولعّل هذا ما يفسر غياب الأطباء والمهندسين – وأي تقني آخر – عن الجوائز العامة، التي يحصل عليها عادة باحثون وعلماء وتجربيون”. وفي سؤال للأستاذة الذكية د. لانا مامكغ عن سِّر انتشار التطرف والأفق الضيق بين متعلمين كبار كالأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات – أوضح المحاضر د. عمار حقائق أو ملاحظات أساسية يمكن اشتقاقها من حديثه.
الملاحظة الأولى : أن أي تعلم دون ثقافة لا يرتقي بصاحبه عن العامة أو الدهماء . فأستاذ الجامعة أو الطبيب أو المهندس أو أي متخصص – كي لا يغضب منا هؤلاء – لا يعدو أن يكون حرفيًا. أدائيا تطبيقيا ، يجتر ما تعلمه فقط يسير بخط مستقيم لا يحيد عنه ولا يسائل نصوصه، ولا يشك بها، “فالحلال” عنده أشبه بالصحيح- محدد مسبقا. وخلاف ذلك خاطئ.
إن دراسة العلم لن تقود إلى الوعي والفهم والثقافة. دون دراسة فلسفة العلم ومنهج العلم. وهذا ما ينقض أي علمي مختص سواء كان استاذ جامعة أو طبيًبا ومنهج العلم المطلوب هو:
- البحث عن الحقيقة وليس الانطلاق منها كما يفعل الملتزمون بالتراث وحده. فشتان بين عالم يضع الفروض بحثًا عن حقيقة قد لا يصل إليها. وبين خطيب ينطلق من الحقيقة المطلقة ويحاول تسويقها.
- الشك المنهجي القائم على فحص المسلمات وتقليب البديهيات بحثًا عن مسلمات جديدة أو تأكيدا لمسلمات أو تفيا لها. وهنا أيضا نجد الفرق بين مؤمن بمسلمات لا يجيد عنها وبين باحث عن حقائق.
- الدقة بما تعنيه من ملاحظات تجريبية رقمية ونتائج يمكن تكرار الحصول عليها وإثباتها إذا ما خضعت لنفس الظروف.
- النسبية بمعنى البعد عن اليقينية والحتمية المطلقة، فالعالم لا يعرف ثباتًا حتى في حقائقه.
- التراكمية، بمعنى البناء على ما سبق ، وليس التوقف عنده، فالباحث يضيف جديدًا، وغالبا ما يلغي قديمًا فلا ثبات بل نسبية. ولا حتمية بل تقريبية في جميع الحقائق العلمية.
إذن! المختصون – الذين لا يدرسون فلسفة العلم هم بالضرورة غير مثقفين وبالتالي يسهل انتماؤهم إلى التطرف. وهذا ما يفسر سيطرة التطرف على أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات!!!
الملاحظة الثانية: إن هناك فروقا بين العلم وتاريخ العلم، فالرازي وابن سينا وابن الهيثم هم علماء قدموا للإنسانية كل جديد في عصرهم. ولكنهم ليسوا علماء اليوم! انهم تحولوا إلى تاريخ العلم. كان علمهم حديثا ولكن لا أحد إطلاقًا هذه الأيام مستعد للالتزام بنظرياتهم العلمية. وهنا نعود أيضا إلى رجال عظماء في مجال التراث والفقه كانوا ملهمين للإنسانية صاروا جزءا من التاريخ، وليسوا نماذج معاصرة للشرح والتفسير, فاللجوء للتراث لا يمكن أن يعني التطبيق الحرفي – سواء كان هذا التراث معماريا أم فنيا أم ثقافيا أم سياسيا.. الخ فإذا لم نكن قادرين على النقد والشك والتنقية والغربلة لأسباب ليست علمية أو لإرهاب يمارسه متطرفون ، فإننا لا نستطيع التوقف عند سور صنعاء وجماله المعماري، أو عند قصائد المتنبي والمعرّي وغيرهملأن أعظم الأفكار والأعمال لم تنجز بعد. إن إهمال ثقافة العلم، وفلسفتة ستجعل منّا مستسلمين قابلين مقتنعين بالسير على خط مستقيم يجعل منا مرددين لأي فكر متطرف سواء كان فكرًا تراثيًا أو حداثيا!! فالعصمة من التطرف تتطلب غنى روحيا كما تطلب منهجا علميا وفلسفة العلوم نفسها .
هل في هذا تفسير لانتشار التطرف في بيئات يعتقد انها متعلمة؟؟
(2)
التطرف والفكر التحويلي والتعليم
يقوم الفكر التحويلي على قيم التجددّ والتغير المستمر. فلا ثبات في المعرفة ، فالعلم كما عرفه د. عمار يسعى إلى إكمال نقص معرفي أو إنتاج معرفة جديدة أو تنظيم شتات معرفي أو إضافة جديد أو كشف الزيف في أنماط معرفية، أو كشف قوانين ، او التنبؤ بما سيحدث ، وهذا كله تحويل وتجديد وتغيير في مقابل التطرف الذي يسعى إلى استحضار القديم وتطبيقه رغم تغيير الظروف تحت عنوان الصلاحية الدائمة.
وقد قدم د. عمار بعض المفاهيم التي توضح ارتباط السلطة السياسية وتحالفها وعشقها لرجال علم ودين تمكنوا من تحويل معارفهم إلى :
- تجارة رابحة.
- عصاب مرضى.
- أيديولوجيا سياسة.
- أساطير.
- تقديس اشخاص عاديين.
- فولكلور له كرامات.
إن السياسة والسلطة احتاجت إلى التفكير السلطوي المتمثل بالثبات والجمود بدءاً من توظيف الدين في السياسة بعيد وفاة الرسول العظيم. ومرورًا بالدولة الأموية والعباسية وحتى العثمانية قد ربطت التدين بالعدل. وصارت تتحدث عن الحاكم العادل في أحسن الظروف ونسيت قيمة “الرحمة” وهي أساس الدين الإسلامي. فبرز عندنا نموذج الحاكم العادل حتى لو بطش بالألاف!!
إن قيمة الحاكم العادل طغت على الحاكم الرحيم وبذلك خسرنا العدل وخسرنا الرحمة. وانتشر التطرف سعيًا لتحقيق العدل وغابت الرحمة وانتحرت الرحمة مع العدل. فلم نعد نرى لا العادل ولا الرحيم!!!
وهنا يتجدد دور التعليم في البحث عن الرحمة. وعلى التعليم أن يسعى لإنتاج لاعب الشطرنج الذي يفكر مستقبليًا وليس لاعب السلطةوحليفها الذي يحاول إنتاج الماضي.
(3)
التعليم أولاً وأخيرًا
يقول د. عمار : من لديه قدرا من الفن أو الثقافة الفنية لن يتطرف. وأقول من سمع أغنية أو قرأ قصيدة أو استمع إلى لحن موسيقي أو زار معرضًا فنيًا لا يمكن أن يكون فريسة للتطرف. ومن قرأ الفلسفة . أو من درس مساقًا في التربية الأخلاقية وتمكن من قواعد المنطق وفلسفة التجريب لن يكون متطرفا بسهولة!! فالنماذج أو نتاجاتنا التعليمية التي تميزت:
بإغلاق الشرايين بالكولسترول المعرفي الذي حرم حتى الكبار المتعلمين من الوعي الثقافي والانفتاح الفكري واحترام الآخر هو ما جعل من نتاجاتنا التعليمية مشروعات متطرفة حتى لو كانوا أطباء وأساتذة!!