ويلٌ للجشعين من غضب الجائعين!

جلبير الأشقر – تنتمي قرارات رفع الأسعار التي أثارت الغضب الشعبي في كل من مصر ولبنان في الأيام الأخيرة إلى نمط واحد، يتذرّع بمنطق اقتصادي بدأ يسود العالم منذ ثمانينيات القرن المنصرم وتفشّى في عموم المنطقة العربية في التسعينيات. وقد كان أنور السادات مع ما أسماه «الانفتاح» بين المبادرين إلى الأخذ به في مطلع السبعينيات، إلى جانب الدكتاتور العسكري التشيلي أوغستو بينوشيه ذي اليدين الملطّختين بدماء ضحايا الانقلاب الذي نفّذه بدعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1973.

وبكلام مبسّط لكنّه صحيح، يقضي المنطق المذكور وهو المعروف باسم «النيوليبرالية» بضرورة إرضاء الأغنياء كي يقوموا بما لا يُحسن إنجازه سواهم حسب المنطق ذاته، ألا وهو دفع عجلة التنمية الاقتصادية بواسطة الاستثمار. أما السبيل إلى إرضاء الأغنياء فهو تقليل الأعباء عليهم في تمويل القطاع العام، الذي يصوّره دعاة هذه السياسات وكأنه يتشكّل بصورة رئيسية من بيروقراطية دولة طفيلية (كلمة «الموظفون» تصبح شبه شتيمة في أفواههم) بينما الحقيقة هي أن قسمه المدني الأكبر يتألف من الخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وتعليم ونقل وغيرها من المرافق الحيوية ونفقات الحماية الاجتماعية. فلا بدّ بالتالي، وفق المنطق النيوليبرالي التطبيقي، من تقليص الإنفاق على تلك الخدمات تحديداً (وليس على الأجهزة الأمنية والقوات المسلّحة، بالطبع) والتوقّف عن تمويلها بالدَين العام، وذلك بإلقاء عبء ذاك التمويل على كاهل عامة الشعب، أي على كاهل الفقراء ومتواضعي الدخل الذين يشكّلون غالبية الشعب العظمى.

أما النتيجة اللازمة لهذا المنطق فهي استبعاد الضريبة التصاعدية والضرائب على الشركات في تمويل الإنفاق العام، وهي الضرائب التي تتناسب مع حجم المدخول والثروة بحيث يساهم كل فرد وجماعة حسب مقدرتهم الاقتصادية، بل يقضي المنطق النيوليبرالي بتخفيض الضريبة التصاعدية والضرائب على الشركات واللجوء عوضاً عنها إلى الضرائب غير المباشرة التي تطال الاستهلاك بدل الدخل، ويتحمّل الفقراء وزرها بالتالي. وهي ضرائب تصاعدية بالمقلوب (أو تنازلية)، أي أن نسبتها من دخل الفرد والعائلة تزيد كلّما قلّ دخلهم. وسواء تمّ الأمر برفع الضرائب على الاستهلاك أو بإلغاء دعم أسعار الحاجيات الاستهلاكية الأساسية، تكون النتيجة واحدة في إلقاء وزر تقليص الدَين العام على كاهل الأغلبية المتواضعة بدل إلقائه على كاهل الأقلية الميسورة.

ويعلّل المنطق النيوليبرالي هذا الإجحاف المكشوف بضرورة حفز أصحاب الرساميل على الاستثمار من منطلق الرهان على أنهم سوف يزيدون منه كلّما زاد نصيبهم من أرباحه، أي كلّما كانت الضرائب على مداخيلهم أكثر انخفاضاً. ويترافق هذا الرهان الأول برهانٍ آخر على أن الاستثمارات المرجوّة سوف تخلق فرص عمل ثابتة وتنعكس نفعاً على المجتمع بأسره من خلال تقليص البطالة ورفع القوة الشرائية لدى العموم.

أما الحقيقة المرّة فهي أن واقع بلداننا مخالف تماماً لهذا التصوّر النظري. فإن الظروف السياسية والاجتماعية السائدة لدينا تؤدّي إلى توجّه غالبية الرساميل نحو الاستثمار قصير المدى الذي يتوخّى الربح السريع، وهو ما يفسّر تضخّم قطاع البناء المرتبط بالمضاربة العقارية وتفضيل الرساميل للربح الرَيعي المضمون كالذي يوفّره الاحتكار الذي يحكم قطاع المواصلات (لا سيما رخص الهاتف الخليوي). وهذا القطاع الأخير بابٌ من أبرز أبواب «رأسمالية المحاسيب» في بلداننا كما في كافة البلدان التي يسود فيها النمط الرأسمالي نفسه.

ولا عجب بالتالي من أن تتبنّى السياسات النيوليبرالية حكومات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الموصوفة. والمحصّلة أن نهب الشعب وإثراء المحاسيب هما اللذان سوف يزدادان، ومعهم الفقر والبطالة بحيث تتفاقم كافة الأسباب التي أدّت إلى الانفجار الاجتماعي الكبير الذي عمّ منطقتنا قبل ست سنوات. وهذا ما يحتّم تجدّد الانفجار على نطاق أكبر عاجلاً أو آجلاً، وما الاحتجاجات الأخيرة المشار إليها في بداية هذا المقال، بعد تلك التي شهدتها تونس والمغرب والسودان خلال العام الماضي، سوى إرهاصات تشير إلى طاقة انفجارية عظيمة لا تني تتعاظم.

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

مهرجان جرش يحيي روح درويش بندوة ثقافية لامست اوجاع غزة

النجار: عندما رحل درويش لم ترحل القصيدة بولص: تربطني بدرويش صداقه ومواقف ما بين عمان …