العملة النادرة

 

الخوري أنطوان الدويهيّ –

 

الأول نيوز – كنتُ جالسًا في مقهى أحتسي القهوة وأنا أدوِّن مقالة طُلبت منّي، عندما دخلت المقهى امرأتان وتقدَّمتا نحوي. بعدما سلَّمت عليهما، اعتذرتُ منهما لأتابع عملي الذي أشرف على الانتهاء. في تلك الأثناء، راحت المرأتان تتحدَّثان عن امرأة ثالثة التقتا بها عند مزيِّنة الشعر. لفتني حديثهما ولم يعد يجمع تفكيري على إنهاء المقالة. فرحتُ أصوِّر بعض الأشياء على الهامش وأنا أستمع إليهما، وهما مسترسلتان بالحديث سوءًا عن تلك المرأة التي أبت أن تسمع إلى رأي مزيِّنة الشعر. وفجأة، دخلت تلك المرأة واقتربت من مجلسنا. فهبَّت المرأتان تسلِّمان عليها بحرارة فائقة وكأنَّهما لم ترياها منذ زمن طويل، فانضمَّت إلينا. وأخذت النساء الثلاث يتحدَّثن عن مزيِّنة الشعر المستبدَّة التي تفرض رأيها على زبوناتها. انصدمتُ حقًّا من الانقلاب المفاجئ في حديث المرأتين. وأدركتُ أنَّ معظم الأحاديث تنقلب رأسًا على عقب بين حضور المتحدَّث عنه وبين غيابه.

وهذا ما جرى بالفعل، إذ استأذنت إحدى المرأتين بالذهاب، فراحت المرأتان الأخريان تتحدَّثان عن تعجرف المرأة التي مضت…

اعتادت إحدى النساء أن ترسل إليَّ تهنئة على كلِّ مقالة تصدر لي. وفي إحدى المرَّات، أخبرني زميل لي أنَّ إحدى السيِّدات راحت تنتقد أمامه مقالاتي، وتبيَّن لي بعد ذلك أنَّها تلك المرأة ذاتها التي تمدحني. وفي إحدى المرَّات طلبت أن تقابلني لتتعرَّف إليَّ، فاستجبتُ لرغبتها وأتيت والزميل معي، فتلعثمت ولم تعرف ماذا تقول…

كم هم نادرون أولئك الذين يقولون ما يُضمرون، ويتكلَّمون بالصدق والصراحة، ولا يختبئون خلف أصابعهم! قليلون هم الذين يملكون شخصيَّة فذَّة، لا يخافون من سلطة، ولا يرتهنون لمادَّة أو لمكسب خسيس. قليلون هم الذين يصارحون بآرائهم بكلِّ شفافيَّة وبدون مواربة. فهؤلاء صادقون مع أنفسهم قبل أن يكونوا صادقين مع الآخرين.

لطالما قدَّر أصحاب السلطة أولئك الذين يُظهرون أخطاء أحكامهم، فسعوا إلى تحسين أدائهم، وأظهروا أنَّهم، مهما علا شأنهم، يحتاجون إلى من يُرشدهم ويدلُّهم على الصواب من الخطأ. أمّا اليوم، فأصحاب السلطة يرفضون أيَّ انتقاد على قراراتهم ولا يقبلون أيَّة ملاحظة على تصرُّفاتهم؛ بل على العكس، يسعون إلى محاكمة كلَّ وقح يحاول أن “يرفع” رأسه ويعطي “الملاحظات” البنّاءة التي كثيرًا ما تكون في موضعها. فهؤلاء “القادة” لا يمكن نعتهم بالرجالات العظام، بل بأشباه الرجال الذي يستمدُّون قوَّتهم لا من ذكائهم وحكمتهم، بل من نفوذهم ومالهم.

وكم أنَّ أصحاب الفكر الناضج والواعي يركنون إلى “الأطفال” وصغار القوم ليستمدُّوا منهم الحكمة الرصينة والقرارات الفعَّالة! فزهرة الياسمين بالرغم من صغر حجمها، تفوح منها رائحة تعطِّر الأجواء التي تحيط بها. والشمعة مهما بدا ضوؤها ضئيلاً إلاَّ أنَّه ينفي الظلمة في ليل دامس.

ما أحوجنا اليوم إلى ناسٍ يتمتَّعون بصراحة الكلام! فالمتزلِّفون كثيرون، والمتملِّقون على الطرقات وأمام الأبواب! أمّا الصادقون فعملتهم نادرة، ووجودهم ضئيل!

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

السادية في التعامل مع أهل غزة: حين يتحول الإيذاء إلى سياسة ممنهجة

الأول نيوز – [صلاح ابو هنود] مخرج و كاتب منذ ما يزيد على 17 عامًا، …