صلاح أبو هنود – مخرج وكاتب-
الأول نيوز – كل الاتفاقيات السابقة وُقّعت على الورق، لكن الواقع كتب سطورًا أخرى بالدم.
لم تُحترم العهود، ولم تُصن المواثيق، لأن كل اتفاق في منطقتنا يُولد وفي أحشائه الخروقات.
تُعلن الهدنة أمام الكاميرات، ويُصافح القادة تحت عدسات العالم، لكن ما إن تخفت الأضواء حتى تبدأ الخروق الصغيرة بالاتساع، حتى يعود المشهد كما كان: نارًا تحت الرماد.
وقف إطلاق النار ضرورة إنسانية لا خلاف عليها، فالأرواح أنهكتها الحرب، والمدن صارت رمادًا، لكن هذا التوقف المؤقت لا يصنع سلامًا.
ما لم يتكئ الاتفاق على إرادة سياسية حقيقية، وعلى آليات تنفيذ صارمة تراقب وتحاسب، فإنه لن يصمد أكثر من الهدنات السابقة في لبنان وفلسطين، التي تحولت إلى فتراتٍ لإعادة التموضع لا أكثر.
أما القضاء الدولي، الذي يُفترض أن يكون حارس العدالة الأخير، فقد أصيب بالشلل.
محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية تُداران وفق ميزان السياسة لا ميزان الحق.
العالم يراقب كيف تُحمى إسرائيل وقادتها وجنودها من المساءلة، بينما تُغلق الملفات أو تُؤجل القضايا باسم “التوازنات الدولية”.
إنه عدالة مُعطلة، أو كما يقال: “قانون يطبق على الضعفاء فقط”.
في هذا المشهد، يظهر ترامب من جديد، يسعى إلى السلام
لا حبًا بالسلام ولكن ليمنح اسرائيل وامريكا ما لم يتحقق بالحرب
وإعادة رسم صورته في التاريخ بطلًا للسلام بعد أن كان راعيًا للفوضى.
لكن السلام لا يُصنع بدوافع منحازة ولا يُحمل على أكتاف الطموح الشخصي.
فالسياسة حين تسبق العدالة، تولد اتفاقات مشوهة، تعيش لتخدم من صنعها لا من وقع عليها.
أما نتنياهو، فهو الآخر يبحث عن مخرج من محاكم الداخل، وعن غطاء سياسي جديد يمنحه نجاة مؤقتة،
بينما تتعطل المصالحة الفلسطينية، ويُعاد الصراع إلى حضن أمه
وتبقى العدالة الدولية في غيبوبة طويلة لا أحد يعرف متى تستفيق منها.
التاريخ يقول: كل هدنة في هذه الأرض تبدأ بالكلمات وتنتهي بالرصاص.
كل اتفاق يرفع شعار “السلام” يصبح بعد أشهر عنوانًا لجولةٍ جديدة من الصراع.
فطالما ظل ميزان العدالة مائلًا، ستبقى الخروقات قدرًا متكررًا،
وسيظل الإنسان هو الخاسر الدائم في لعبة الدول ومسرح السياسة.
ليس المطلوب هدنة جديدة تُزيّن نشرات الأخبار،
بل سلامٌ يستند إلى عدالةٍ لا تُعطل، وقانونٍ لا يُدار بالتحالفات، وإرادةٍ دوليةٍ لا تعرف الانتقاء.
سلام يضع الإنسان قبل المصالح، ويجعل من الكلمة التزامًا لا واجهة.
وحتى ذلك الحين، سيبقى العالم يتابع مشهدًا مكررًا:
اتفاق يُوقّع في العلن، وخروقات تُنسج في الخفاء،
عدالة تنادي، فلا يُسمع صوتها،
وحروب تستريح قليلًا… لتبدأ من جديد.