مقالات مشابهة
يحيى شقير
لضمان حريات الأفراد في مواجهة سلطات الدولة هناك ما يعرف بحريات المعارضة Opposite liberties مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة والتجمع السلمي والانضمام للنقابات، والمشاركة في الانتخابات.
إن حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة هي ضمن الحريات الأساسية والمفضلةوالأجدر بالرعاية التي تنص عليها دساتير هذه الدول.
وتنص أغلب الدساتير العربية بدون إسهاب على حرية الرأي وحرية الصحافة؛ فلسطين المادة 19، الأردن المادة 15، مصر 67-68، لبنان 13، الكويت 36-37، البحرين 23، اليمن 26، الجزائر 39، الإمارات 30، السودان 48، تونس 8، قطر 13، سوريا 38، السعودية 39، وفي الدستور العراقي المادة 36
وغالبا ما تلحق هذه المواد بعبارات مقيدة مثل؛ في حدود القانون، وبما يتفق مع القانون، أو بالشروط التي يحددها القانون، ونجد أن القوانين تتعدى تنظيم الحق الدستوري لتعصف به.
وهناك دساتير عدد من الدول نصت على التزام ايجابي على الدولة لرعاية الإبداع الأدبي والفني ومنها مصر حيث تنص المادة 67 من الدستور المصري:
حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك.
ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها.
وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة، إضافة إلي التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها، وذلك كله وفقاً للقانون.
وقد سبقت المحكمة الاوروبية لحقوق الإنسان غيرها في تقسيم التعبير إلى ثلاثة انواع هي:
- التعبير السياسي: ويقصد به التعبير اللازم لأي حوار وطني حول قضية سياسية. (يعرف قانون الاجتماعات العامة رقم 40 لسنة 2008 الاجتماع العام: الاجتماع الذي يتم عقده لبحث أمر ذي علاقة بالسياسة العامة للدولة).
- التعبير التجاري: وهو استئجار مساحة أو وقت في وسائل الإعلام للتعبير عن رأي.
- التعبير الفني: وهو استخدام الفنون بمختلف انواعها كالرسم والنحت والسينما للتعبير عن قضية.
ولأجل هذه المقالة سنتحدث عن التعبير الفني الصادم لقيم المجتمع مثل الفحش وخدش الآداب العامة والأخلاق كتصوير ورسم العري والجنس.
ومن يقرأ الشعر العربي القديم يجد مثل هذا التعبير، فمثلاً يصف النابغة الذبياني علاقته بصاحبته ويقول:
وطورا تكون مهادا لنا وطورا نكون ويٌعلى بها
وانظر إلى قول المُنخلُ اليَشكُري:
ولَقد دَخَلتُ على الفَتاةِ الخِدرِ في اليَومِ المَطيرِ
الكاعِبُ (كعب ونهد ثدياها وبرزا) الحَسناءُ تَرفِلُ في الدِّمَقسِ وفي الحَريرِ
فَدَفَعتُها فَتَدافَعَتْ مَشيَ القَطاةِ إلى الغَديرِ
ومن يقرأ مناقضات جرير والفرزدق لا بد أنها رأى في بعضها الفحش، فقد نظم جرير وأفحش بنساء بني تميم وقد اصبحت الأمة بكاملها تصحو وتنام على سؤال: ماذا قال جرير؟ وبماذا رد عليه الفرزدق..؟
ومن هذه القصائد جرى حفظ “ثلث اللغة” كما قيل!.
وعندما نشزت النوار زوجة الفرزدق استجارت كما يخبرنا ببنت منظور الفزاري زوجة عبد الله بن الزبير، وذهب الفرزدق فوسط حمزة بن عبد الله بن الزبير، فنجحت الزوجة وفشلت وساطة الابن فقال الفرزدق:
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
من أُتيحت له الفرصة بزيارة بعض المتاحف في اوروبا (زرت متاحف مدريد) سيرى رسومات ومنحوتات كثيرة حول العري.
ولربما كان “التعبير الفني” مسيطراً على المشهد الجمالي في اوروبا في القرنين الماضيين (الفارطين بلهجة المغرب العربي).
وفي لندن توجد منظمة اسمها Index on Censorship (الرقابة على الرقابة) متخصصة في الدفاع عن حرية التعبير الفني.
وتعطي المحكمة الاوروبية لحقوق الإنسان حماية أكبر للتعبير الفني السياسي مثل الكاريكاتور المتعلق بالأمور السياسية لذلك ترى الرسامين لا يوفرون أحدا من السياسيين حتى رأس الدولة. وتعطي المحكمة حماية أقل للتعبير بواسطة الكاريكاتور إذا تعلق الأمر بالدين وكان صادماً. ففي قضية Wingrove v United Kingdom أيدت المحكمة قرار السلطات البريطاينة بمنع عرض فيلم Visions of Ecstasy. الذي يصور السيد المسيح يمد يده لتحسس صدر راهبة.
وشخصياً شاهدت هذا الفيلم عندما كنت أدرس بجامعة اوكسفورد فسألت المحاضر (د. ديرك فورهووف، استاذ قوانين الإعلام بجامعة غنت ببلجيكا وكوبنهاجن) إن كنّا ننتهك القانون بمشاهدة الفيلم فغضب مني وقال: أنت في جامعة اوكسفورد! (يعني وجود حرية أكاديمية كالبرلمان).
وفي قضية IA v Turkey أقرت المحكمة حق تركيا بما يسمى “هامش التقدير الحدّي “margin of appreciation للقضاء التركي فيما يتعلق بالكتاب موضوع الدعوى لتلعلقه بآراء صادمة ضد الدين الإسلامي.
وعام 2012 وصلت إحدى القضايا ضد تركيا إلى الهيئة الكبرى للمحكمة (المكونة من 17 قاضياً) وعندما تبين أن لا يوجد قاضي مسلم في الهيئة طُُلب مني شخصياً تقديم رأي استشاري للمحكمة advisory opinion كمختص في موضوع حرية التعبير ومسلم.
وفي قضية Müller v Switzerland قررت المحكمة أن سويسرا انتهت حقوق “مولر” في مصادرة لوحاته التي تبين الجنس ومنها ممارسته مع حيوانات.
وفي قضية أخرى منعت النمسا رابطة للرسامين بإعادة عرض رسومات لسياسيين بأوضاع جنسية وعند الطعن على الحكم لدى المحكمة الاوروبية قررت المحكمة (بأربعة أصوات مقابل ثلاثة) وجود انتهاك للمادة 10 من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان المتعلقة بحرية التعبير.
وفيما يتعلق بأخلاقيات المهنة الصحفية والإعلامية في الدول الاوروبية يتم التفريق بين ما يسمى “إعلام الدفع push media واعلام السحب pull media”، ففي اعلام الدفع الذي يدخل مباشرة على القراء والمشاهدين كالصحف والتلفزيون العام يتم التشدد في التعبير الفني، أما في اعلام السحب كالتلفزيون المدفوع أو الكيبل يتم التسامح بشكل أكبر مع المضمون الفني لأن إرادة المشاهد متوفرة في سحب المضمون حتى لو كان فيه مضمون غير لائق.
